مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ، بدأت معالم مشهد جديد بالظهور، يحمل في طياته أسئلة مصيرية حول مستقبل الميليشيات المسلحة المحلية التي نشطت خلال الحرب بدعم إسرائيلي واضح، وأبرزها مجموعات ياسر أبو شباب في رفح، وحسام الأسطل في خان يونس، ورامي حلس في مدينة غزة، وجدت نفسها فجأة في موقف بالغ الحرج بعد أن تخلت عنها القوة التي كانت تحميها وتسلحها.
تحولت هذه المجموعات من أدوات استخدمها الجيش الإسرائيلي في حربه على حماس إلى أطراف معزولة تواجه مصيراً غير معلوم، في وقت تستعيد فيه حماس زمام المبادرة وتعيد انتشارها الأمني في المناطق التي ينسحب منها الجيش الإسرائيلي. هذا المشهد المعقد يضعنا أمام سيناريوهات متعددة، تتراوح بين الملاحقة والتصفية من قبل حماس، ومحاولات فردية من بعض العناصر لتسليم أنفسهم أو الهرب، بينما تتخلى إسرائيل عن حلفائها السابقين وتتركهم يواجهون مصيرهم المحتوم.
استعادة السيطرة.. هكذا تتعامل حماس مع الميليشيات
حسب تقرير نشرته "إندبندنت عربية" بدأت حركة حماس عملياً في تنفيذ خططها للتعامل مع الميليشيات المسلحة المناوئة لها بمجرد الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار وبدء انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة
وحسب تقارير إعلامية عبرية، بدأت حماس اعتقالات ما وصفتهم بـ"المتعاونين مع الاحتلال" في مختلف أنحاء القطاع، وشكلت وحدة "رادع" التابعة لجهاز الأمن الداخلي لحماس قوة ضاربة في هذه الحملة، حيث أعلنت عن ضربها "أوكار الخونة والعملاء" من شمال القطاع إلى جنوبه.
واتخذت حماس إجراءات تنظيمية منهجية للتعامل مع هذه الظاهرة، حيث عممت وزارة الداخلية في غزة على عناصر أجهزتها الأمنية بالانتشار في المناطق التي تنسحب منها إسرائيل لاستعادة النظام ومعالجة مظاهر الفوضى، مستهدفة بشكل خاص الميليشيات المسلحة .
ووضعت حماس قيادات هذه الميليشيات على قوائم المطلوبين، حيث أصدرت بحق ياسر أبو شباب أمر اعتقال بتهم التخابر وتشكيل عصابة مسلحة، واتبعت حماس أسلوباً متدرجاً في تعاملها مع هذه الميليشيات، فمنحت عناصرها مهلة زمنية لتسليم أنفسهم، ووعدت كل من يسلم نفسه قبل انتهاء المهلة الممنوحة بالأمان، وفي المقابل هددت بتنفيذ "حملة أمنية واسعة تستهدف أوكار الميليشيات المسلحة التي اتهمت بالعمالة والإخلال بالأمن الداخلي طوال فترة الحرب" بالنسبة للعناصر التي ترفض التسليم .
ويبدو أن هذه التهديدات لم تكن فارغة، إذ أفادت تقارير عن اندلاع اشتباكات دموية بالفعل بين عناصر من حركة حماس ومسلحين من الميليشيات المناوئة في مناطق متفرقة من القطاع، بما في ذلك منطقة "جباليا البلد" شمالي قطاع غزة، كما قتل مسلحون مجهولون عنصراً بارزاً من حماس هو محمد عقل، نجل عماد عقل أحد مؤسسي الذراع العسكرية للحركة "كتائب القسام"، خلال اشتباكات قرب المستشفى الأردني في غزة .
التخلي الإسرائيلي.. تغير الموقف الرسمي
في منعطف بارز، بدا أن الموقف الإسرائيلي الرسمي من هذه الميليشيات قد شهد تحولاً جذرياً بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، حيث تخلت إسرائيل بشكل شبه كامل عن حلفائها السابقين وتركتهم يواجهون مصيرهم وحدهم. وجسد هذا الموقف بوضوح تعليق المتحدث السابق باسم الجيش الإسرائيلي اللواء احتياط آفي بنياهو الذي صرح بأن "الميليشيات المتعاونة في غزة لن تدخل إلى إسرائيل، وعليهم مواجهة مصيرهم وحدهم، قواتنا لم تجبر أحد على قتال 'حماس' وعليهم تحمل عواقب قراراتهم"، بل إن بنياهو ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال إن هذه الجماعات "ليسوا سوى متعاونين يؤدون دوراً وظيفياً ولن يضحي الجيش بجندي واحد من أجل حمايتهم" .
ولم يكن هذا الموقف معزولاً داخل المؤسسة الإسرائيلية، فقد رفض الجيش الإسرائيلي مقترح إنشاء منطقة أمنية للميليشيات المسلحة .
وعلل قائد المنطقة الجنوبية بالجيش الإسرائيلي الجنرال يارون فينكلمان هذا الرفض بالقول إن "الخطر الذي قد تشكله هذه العناصر على المستوطنين الإسرائيليين يفوق أي التزام بحمايتهم" . ووفقاً لموقع "كيكر" العبري اليميني، فإن قنوات الأمن الداخلي التابعة لحركة حماس ووحدة "سهم" التابعة لها تعملان منذ الإعلان عن التوصل للاتفاق على كيفية "وضع أيديهم على عناصر ميليشيا ياسر أبو شباب ونظرائهم في خان يونس وشمال القطاع" .
ورغم بعض التقارير التي تشير إلى أن تل أبيب تدرس نقل هؤلاء العناصر إلى معسكرات مغلقة داخل منطقة غلاف غزة كإجراء موقت، إلا أن الموقف الرسمي الإسرائيلي بقي متصلباً في رفض منحهم ملاذاً آمناً . وسخرت وسائل إعلام إسرائيلية علناً من مصير هؤلاء الحلفاء السابقين، حيث غرد موقع "حدشوت يسرائيل" العبري ساخراً: "الآن بعد أن انتهت الحرب ستتمكن حماس من العمل بحرية في غزة، حظاً موفقاً لياسر أبو شباب وللمنظمات الأخرى في غزة التي تعاونت مع إسرائيل" .
معضلة الميليشيات.. بين المقاومة والاستسلام
وجدت الميليشيات المسلحة المناوئة لحماس نفسها أمام خيارات محدودة ومحفوفة بالمخاطر بعد اتفاق وقف إطلاق النار والتخلي الإسرائيلي عنها. وبدا واضحاً الانقسام في صفوف هذه الميليشيات بين خيار المقاومة حتى النهاية ومحاولة التفاوض لتسوية أوضاعهم. فمن ناحية، أظهر قادة هذه الميليشيات موقفاً تحدياً علنياً، حيث صرح ياسر أبو شباب بأن عناصره "بقوا في مناطقهم في رفح تحت حماية الجيش الإسرائيلي وسيواصلون الدفاع عن وجودهم دون نية للهرب من قطاع غزة" .
كما أعلن حسام الأسطل أن "حماس تحاول أن تظهر في الإعلام أنها موجودة في القطاع من منظور سلطوي وأنها ستلحق الضرر بنا، هذه حرب نفسية، لن ينجحوا في إيذائنا" .
غير أن هذه التصريحات التحدية تخفي واقعاً أكثر تعقيداً، إذ تشير المعلومات إلى نشوب خلاف كبير بين عناصر ميليشيات أبو شباب، وأن عدداً منهم بدأ بالتواصل مع عائلات ووجهاء عشائر بهدف فتح قنوات اتصال غير مباشرة مع وزارة الداخلية في غزة من أجل تسوية أوضاعهم القانونية والعشائرية وضمان عدم ملاحقتهم ميدانياً في المرحلة المقبلة .
ويبدو أن حملة التهديد التي شنتها حماس، إلى جانب العزلة الاجتماعية التي يعاني منها عناصر هذه الميليشيات بعد تبرؤ عائلاتهم منهم - كما حدث مع عائلة أبو شباب التي وصفت ما يقوم به بأنه "خيانة للوطن وتعاون مع الاحتلال" - بدأت تؤتي ثمارها في إضعاف تماسك هذه المجموعات .
تداعيات مستقبلية.. مشهد ما بعد الحرب
تشير التطورات الجارية إلى أن مصير هذه الميليشيات يتجه نحو أحد سيناريوهين رئيسيين: إما الاستسلام والتسليم لحماس في إطار ما يسمى "تسوية الأوضاع" التي تمنح فيها حماس أماناً مؤقتاً لمن يسلم نفسه، أو الملاحقة والتصفية في حال استمرارهم في رفض التسليم. وقد بدأت ملامح السيناريو الثاني بالظهور بالفعل، حيث أفادت مصادر إسرائيلية بأن "الاستخبارات العسكرية رصدت مؤشرات إلى فرار عدد من عناصر الميليشيات، بعد حصولهم على وعود بالعفو من حماس" .
وتكشف هذه التطورات عن إشكالية عميقة في الاستراتيجية الإسرائيلية التي اعتمدت على خلق قوى محلية بديلة لحماس دون وجود خطة واضحة لمصير هذه القوى بعد انتهاء الحرب. فكما يقول حننئيل أفيف، عضو الكنيست اليميني المتشدد عن حزب "يسرائيل بيتينو": "ياسر أبو شباب وبقية الميليشيات المتعاونة مع إسرائيل يواجهون الآن معركة بقاء قد تؤدي إلى اختفائهم الكامل من الساحة الغزية" .
وهذا المصير يذكرنا بمصير "جيش لبنان الجنوبي" الذي تخلت عنه إسرائيل بعد انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، حيث ترك عناصره يواجهون المحاكمات والسجون .
وبالنسبة لحماس، فإن الحملة ضد هذه الميليشيات ليست فقط مسألة أمنية، بل هي أيضاً معركة شرعية ورمزية تهدف إلى تأكيد هيمنتها على المشهد في غزة وتثبيت رسالة مفادها أن أي تعاون مع إسرائيل سيؤول إلى الفشل وأن ثمنه باهظ.
وهذا ما تؤكده الباحثة في علم الاجتماع ثريا زهري بالقول: "دائماً مصير الميليشيات ينتهي بالفشل. الوعي الشعبي الفلسطيني يدرك خطورتها. إن البنية والعشائرية تعد التعاون مع إسرائيل وصمة عار لا تمحى، مما يجعل من الصعب على أي زعامات بديلة إثبات شرعيتها، بخاصة أنه لا حاضنة شعبية لهم، وسرعان ما ينتهي أصحاب العصابات إلى العزلة أو التصفية مع أول مواجهة جدية مع المجتمع والحكومة".
0 تعليق