التريّث السياسيّ يُربك جيل الرقمنة - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يشهد المجتمع المغربي اليوم تباينًا عميقًا بين جيلين يفكران بمنطقين متناقضين، جيل جديد وُلد في حضن الثورة الرقمية وتشبع بثقافة السرعة والدقة والراهنية، وجيل قديم تَشكّل وعيه داخل المدرسة السياسية التقليدية التي تُقدّر التدرّج والحذر والتريّث والمناورة، وهذا التباين لا يعكس مجرد اختلاف في الأعمار أو التجارب، بل فارقًا في نمط التفكير وفهم الزمن والتدبير، ما يجعل التواصل بين الطرفين محفوفًا بسوء الفهم وتباين الرؤى حول مفاهيم الكفاءة والفعالية والمسؤولية.

ويعبِّر الفرقُ بين “جيل Z” وجيل المسؤولين السياسيين الحاليين عن صراع بين عقليتين مختلفتين في التكوين والنظرة إلى العالم، الأولى نتاج الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، والثانية نتاج المدرسة السياسية الكلاسيكية القائمة على منطق السلطة والتدرج.

“جيل Z” الذي نشأ في عالم مفتوح وسريع الإيقاع، وتشبّعَ بالتكنولوجيا والخوارزميات، يرى في الدقة والسرعة والنتائج الفورية معايير أساسية للنجاعة والمسؤولية وصدق النوايا، لأنه اعتاد التعامل مع البيانات الرقمية والتحليل المنطقي القائم على الحلول السريعة، لذلك يميل إلى الوضوح والمباشرة والتجريب المستمر، ولا يتقبل الانتظار الطويل أو الخطاب الغامض، إذ يعتبر أن كل مشكلة قابلة للحل (مُخرجات) متى وُجدت الإرادة والمنهج العلمي (مُدخلات).

في المقابل، تَكوَّن وعي جيل المسؤولين داخل بيئة سياسية بطيئة الإيقاع تُقدّر الحذر والتفاوض أكثر من الحسم، ويغلب عليها منطق “الزمن السياسي” الذي يسعى إلى ربح الوقت والتريُّث وتأجيل القرارات حفاظًا على التوازنات؛ هذا الجيل نشأ على ثقافة المراوغة التواصلية والمناورة الخطابية، ويرى في التشويش وإخفاء النوايا أدوات للتدبير، وفي الغموض والتماطل وغض الطرف وسائل لتفادي الاصطدام، مما يجعله يشتغل بمنطق مغاير تمامًا للجيل الرقمي الجديد الذي تعوّد على دينامية التفكير وسرعة اتخاذ القرار وتنفيذه.

يتعامل جيل الشباب مع الواقع بعيون الخوارزميات، حيث يُفترض أن يقود كل معطى إلى نتيجة محددة في زمن وجيز، بينما يتعامل جيل المسؤولين بعقل سياسي كلاسيكي يرى أن الزمن جزءٌ من أدوات التدبير، وأن إدارة الانتظار شكل من أشكال السلطة، ومن هنا يتولّد الاصطدام في التواصل بين الجيلين، إذ يرى الشباب في بطء المسؤولين نوعًا من العجز أو ضعف الكفاءة وبالتالي ضرورة الرحيل والبحث السريع عن البديل، في حين يرى المسؤولون في استعجال الشباب تهورًا غير محسوب العواقب، ومغامرة مشوَّشة ناتجة عن قلة التجربة.

ولتقريب وجهات النظر بين الجيلين، تبرز ضرورة إعادة بناء قنوات الحوار المؤسسي بين الشباب وصنّاع القرار على أسس جديدة تراعي لغة العصر وتستثمر الوسائط الرقمية في التفاعل، مع خلق فضاءات تشاركية رقمية تجمع الطرفين لتبادل الرؤى حول السياسات العمومية، واعتماد آليات استماع دورية تتيح للشباب التعبير عن أفكارهم بلغة يفهمها صانع القرار، كما يمكن للمسؤولين الاستفادة من الكفاءات التقنية والرقمية التي يمتلكها الجيل الجديد من خلال إشراكه في بلورة الحلول العملية للمشكلات المجتمعية وفق الإمكانات المتوفّرة، مع استحضار أعلى مستويات الوضوح بين الطرفين.

كما أن الرهان الحقيقي يكمن في التربية على التفاهم المتبادل، إذ يحتاج الشباب إلى فهم تعقيدات التدبير السياسي وضرورات التوازن التي تفرضها المسؤولية، بينما يحتاج المسؤولون إلى إدراك التحول الذهني والثقافي الذي أنتج جيلًا رقميًا لا يقبل الغموض، ويمكن أن يتحقق ذلك عبر برامج تكوين وتبادل خبرات تجمع بين التفكير التحليلي والحنكة السياسية، بما يسمح بتكامل التجربتين وتأسيس رؤية مشتركة قائمة على الثقة والتعاون بدل الصدام وسوء الفهم.

إن هذا التباين بين السرعة الرقمية والبُطء السياسي يكشف تحوّلًا عميقًا في البنية الذهنية للمجتمع، ويفرض على مؤسسات الدولة تحديًا جوهريًا يتمثل في ضرورة تجسير الهوة بين منطق الخوارزمية ومنطق السلطة، من خلال تجديد أساليب التفكير والتدبير بما ينسجم مع زمن الذكاء الاصطناعي وثقافة النجاعة التي أصبحت مطلبًا أساسيًا لدى الجيل الجديد الباحث عن الفعل السريع والنتائج الملموسة، خاصة حين يتعلق الأمر بضروريات الصحة والتعليم والشغل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق