المغرب و"التحولات النيوليتية" .. علم الآثار يعيد ترتيب الذاكرة المتوسطية - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تُوّج بحث أثري حول موقع وادي بهت قرب الخميسات، مؤخرا، بجائزة Antiquity لعام 2025 ، بعدما أثبت وجود أقدم مجتمع فلاحي مُعقّد موثَّق في شمال غرب إفريقيا خارج وادي النيل، مؤرَّخا بدقة بين 3400 و2900 قبل الميلاد.

وسيعيد هذا الاكتشاف بلا شك رسم خريطة البدايات الزراعية والاجتماعية في غرب المتوسط، ويضع المغرب في مركز السردية لا على هامشها.

ويؤشر هذا التتويج إلى انتقال حاسم في كتابة تاريخ ما قبل التاريخ المتأخر بالمنطقة، إذ يوفّر وادي بهت أدلة مادية كثيرة على الاستيطان الواسع والتنظيم الاقتصادي القائم على الفائض والتخزين والتخصّص، في لحظة طالما وُصفها الفاعلون في الميدان بالفراغ على الضفة الجنوبية للمحيط المتوسطي.

برز في هذا المنجز الدور القيادي للباحث المغربي يوسف بوكبوط عن المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط، من اختيار أسئلة البحث وترسيم استراتيجيات المسح والحفر إلى تأطير التأويلات ضمن خصوصيات المشهد الإيكولوجي والاجتماعي المغربي، في شراكة مهنية متكافئة مع جامعة كامبريدج والمجلس القومي للبحوث بإيطاليا.

وقد تحوّل حضور المدرسة المغربية من الاستضافة اللوجستية إلى المبادرة العلمية المؤثرة؛ وهو ما تجسّد في تثبيت كرونولوجيا دقيقة بالمطيافية الإشعاعية، وربط المادة الفخارية وتقنيات التخزين ذات ”الفوهة الجرسية“ بشبكات التفاعل عبر مضيق جبل طارق دون التفريط بفرادة السياق المحلي.

منجز علمي يملأ فجوة طويلة

استقراء بسيط لفحوى المقال المتاح مجانا بصيغة Open Access للعموم يفيد بأن شبكة مسح دقيقة بمربعات 10×10 أمتار على مساحة 19.5 هكتارات قادت إلى التعرف على حزام نشاط كثيف يغطي نحو 9–10 هكتارات، مع حفريات انتقائية كشفت منظومة حُفر تخزين عميقة، وأدوات طحن ومعالجة، وجرار وأوانٍ كبيرة، ولقى نباتية وحيوانية تؤكد اقتصادا زراعيا متكاملا يزاوج شعيرا عاريا وقمحا وبقولا مع تربية أغنام وماعز وبقر وخنزير.

وتثبت تواريخ الكربون المشع نطاقا زمنيا محكما بين 3400–2900 ق.م، مع قراءات مبكرة ولاحقة طفيفة؛ ما يمنح” النيوليتي النهائي“ تعريفا ماديا واضحا في شمال غرب إفريقيا، ويقوّض فرضية ”غياب الدليل“ لصالح ”غياب البحث“ سابقا.

المغرب فضاء تفاعل مادي وفكري

تكشف المقارنات التقنية والزخرفية في الفخار؛ ومنها زخرفة “غامق على فاتح” النادرة مغربيا والمألوفة في جنوب إيبيريا، عن تشابه منهجي مع ”ثقافة الصوامع“ الأندلسية والآلنتيجو، بما يدعم سيناريو تفاعل مادي وفكري عبر بوابة جبل طارق خلال الألف الرابع والثالث قبل الميلاد.

وتنسجم هذه القرائن مع دلائل معروفة في الشمال المتوسطي على مواد ذات صلات إفريقية، مثل العاج وبيض النعام؛ ما يرسّخ موقع المغرب الكبير طرفا مُشكِّلا في شبكات الغرب المتوسطي لا مجرد مستفيد لاحقا.

من جبل إيغود إلى وادي بهت.. تراكم هيستوغرافي مغربي

كما أعاد جبل إيغود موضع المغرب في خريطة نشأة الإنسان العاقل، يضيف وادي بهت لبنة تأسيسية لإثبات وجود مجتمع فلاحي واسع التنظيم في وقت مبكر، لتتّسع بذلك السردية من بواكير الإنسان إلى بواكير التعقيد الاجتماعي والاقتصادي في المكان نفسه.

بهذا التراكم، تتقدّم الكتابة التاريخية من سرديات ”التخلف الجنوبي“ إلى خرائط تُبرز مركزية المغرب في تصور بدايات الغرب المتوسطي، علميا وتعليميا ومتحفيا.​

المنهج والبيانات.. صرامة متعددة التخصصات

أتاح التكامل بين المسح المكثّف والتصوير المسيّر والحفريات المحددة والتحليل النباتي–الحيواني ودراسة الفخار والصوان بناء نموذج تفسيري متماسك لبنية المجتمع وطرائق عيشه وتقنياته. وتلمّح كثافة أدوات الطحن وإعادة توظيفها ومؤشرات تصنيع الفؤوس والمناجل و”بريق الحصاد إلى خبرات تقنية موزّعة وتخصّص وظيفي داخل مشهد ريفي واسع، مع احتمالات حصاد جرت أطرافه خارج النطاق المركزي للموقع.

معنى الجائزة ودلالتها السياسية-الثقافية

تكرّس جائزة Antiquity السنوية أفضل المقالات المنشورة من حيث القيمة العلمية والسردية. وجاء تتويج وادي بهت ليحوّل ”فجوة“ في السجل إلى ”عتبة“ لإعادة التأريخ، محرضا على توسيع المسوحات المفتوحة خارج الكهوف والمدافن.

ويضع ذلك صناع السياسات التعليمية والثقافية أمام فرصة لتحديث المناهج والمتاحف وتعزيز الدبلوماسية العلمية، بما يعمّق تموقع المغرب بوصفه مهدا للبدايات البشرية والحضارية معا.

آفاق البحث المقبلة

تتجه الأولويات إلى كشف بنى السكن والتراتبية الاجتماعية وتتبع سلاسل الإمداد والطقوس المرتبطة بحُفر التخزين وربط سجلات النباتات بالمناخ الدقيق لفهم تكيّفات الزراعة الأولى. كما تمثل أرشفة رقمية وطنية مفتوحة لوحدات الحفر واللقى وتوسيع الشراكات طويلة الأمد بين INSAP وشركائه خطوة حاسمة نحو”أطلس النيوليتي“ المغربي كمرجع قارّي وإقليمي..

بهذا المنجز، يبرهن الباحث المغربي وشركاؤه على أن الرواية الكبرى لبدايات الإنسان والحضارة لا تُكتب إلا بمفاتيح مغربية أصيلة: من جبل إيغود إلى وادي بهت، من أول إنسان إلى أول مجتمع فلاحي معقّد…سيرة بلدٍ في قلب البدايات لا على أطرافها.

أخبار ذات صلة

0 تعليق