لطالما كانت التحويلات المالية من المغاربة المقيمين بالخارج مصدرا مهمًا للعملة الصعبة، فخلال السنة الماضية وصلت إلى مستوى تاريخي بلغ 115.15 مليار درهم، قبل أن تستقر عند 100.3 مليار درهم قبل شهرين فقط من نهاية السنة الجارية، فيما أصبحت هذه التحويلات مع مرور السنوات تمثل أزيد من 7 في المائة من الناتج الداخلي الخام. ومع ذلك كشف تقرير حديث صادر عن مرصد العمل الحكومي عن حقيقة مثيرة للقلق، مفادها أن 10 في المائة فقط من هذه التحويلات موجهة نحو مشاريع إنتاجية، ما يثير تساؤلات حول المردودية الاستثمارية لتحويلات مغاربة الخارج.
وبالنظر إلى الإمكانيات الاستثمارية التي تتيحها تحويلات مغاربة الخارج تعترض هذه الموارد عدة عقبات تنحرف بها عن المشاريع الإنتاجية، بداية من النقص الكبير في المعلومات حول الفرص الاستثمارية المتاحة؛ فالمغاربة المقيمون في الخارج رغم ارتباطهم العاطفي ببلدهم لا يحصلون على معلومات واضحة ومبسطة حول المشاريع الممكن الاستثمار فيها، ولا على منصة تفاعلية موحدة توجههم بشكل متواصل، بالإضافة إلى تعقد المناخ الإداري وغياب التنسيق بين الآليات الموجودة، ما يجعل الإجراءات الاستثمارية صعبة بالنسبة لهذه الفئة من المواطنين المغاربة.
ويشكل البطء والتعقيد الإداريان عائقين رئيسيين، فكثير من المهاجرين المغاربة في الخارج، خاصة أولئك الذين اكتسبوا خبرة مهنية، يشعرون بالحيرة إزاء البيروقراطية التي تعيق رغبتهم في الاستثمار بسرعة وكفاءة؛ وتولد هذه الوضعية شعورا بعدم الثقة بسبب تجارب سابقة، فقد تحولت عدد من الفرص الواعدة إلى واقع مخيب للآمال، وبالتالي فإن قضية الثقة تعتبر نقطة محورية، بحيث يدفع القلق من مناخ الأعمال في المغرب العديد من المهاجرين إلى التردد في الاستثمار، رغم الدعم المؤسسي من خلال الوزارة المنتدبة المكلفة بالاستثمار والمراكز الجهوية للاستثمار وغيرها من الجهات، التي توفر آليات المساعدة للمستثمرين الأجانب والمحليين.
إعادة توجيه “التحويلات” كمحرك للنمو
فرضت التحولات الاقتصادية والجيوسياسية الدولية والإقليمية على المغرب ضرورة إعادة النظر في الموارد المالية الآتية من الخارج، بما يتيح استقرارا نقديا داخليا ويغطي فواتير الاستيراد المتفاقمة، وبالتالي إعادة توجيه جزء كبير من التحويلات المالية للمهاجرين المغاربة في الخارج نحو مشاريع إنتاجية، لكي تتحول إلى محرك للنمو المستدام. ويتطلب ذلك إعادة هيكلة آليات التحفيز، وتبسيط الإجراءات الإدارية بشكل جذري. وإضافة إلى ذلك يتوجب من أجل جذب الجيل الثالث من المهاجرين تطوير مبادرات اقتصادية مبتكرة تستهدفهم مباشرة، بما يمكن المملكة من الاستفادة، ليس فقط من الموارد المالية الكبيرة لجاليتها، ولكن أيضا من خبراتها وشبكاتها.
وأوضح محمد يازيدي شافعي، خبير اقتصادي، أنه “في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة أصبح من الضروري للمغرب أن يعطي الأولوية لإعادة توجيه التحويلات المالية للمهاجرين المغاربة إلى مشاريع ذات مردودية اقتصادية عالية، إذ يعتبر هذا المورد أحد أعمدة الاستقرار المالي الوطني”، مردفا: “مع تزايد العجز التجاري وارتفاع فواتير الاستيراد بات من الأهمية بمكان تحويل التحويلات المالية، التي تقدر سنويًا بحوالي 12 مليار دولار أمريكي، إلى محرك حقيقي للنمو المستدام”، مؤكدا أنه “لا يمكن تحقيق ذلك دون تبني إستراتيجية شاملة تهدف إلى جذب الاستثمارات عبر تحفيز المهاجرين لتوجيه أموالهم إلى مشروعات تنموية طويلة المدى، بدءا من القطاع الصناعي إلى قطاعات التكنولوجيا والخدمات”.
وأضاف يازيدي شافعي، في تصريح لهسبريس، أنه “بالنظر إلى الأرقام فإن الدول التي تمكنت من استثمار التحويلات المالية لمواطنيها المهاجرين في الخارج بشكل مبتكر، مثل الهند والفلبين، استطاعت أن ترفع مستويات النمو بشكل مستدام، إذ إن حوالي 4 في المائة من النمو الاقتصادي السنوي في الهند يعتمد على الاستثمارات الناتجة عن التحويلات؛ لذا فإن المغرب إذا ما استثمر هذه الأموال بطريقة مدروسة فإنه قادر على تحويل هذه التحويلات إلى قوة اقتصادية تدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة”، مشددا على وجوب إعادة الحكومة هيكلة آليات التحفيز، وتبسيط الإجراءات الإدارية بشكل جذري لفائدة المستثمرين المغاربة من الجالية.
رهان على الرقمنة لتحفيز الاستثمار
تتيح المنصات الرقمية التي أطلقتها مصالح حكومية مختلفة خلال السنوات الماضية للمهاجرين المغاربة فرصا مهمة لكسب الوقت والجهد عند إنجاز المعاملات الإدارية، التي يدخل عدد منها في نطاق التحضير للاستثمار، مثل تقديم طلبات للحصول على وثائق التعمير، التي أصبحت يسيرة ولا تستدعي الحضور الشخصي، وتسمح للمستخدمين بملء الاستمارات وتحميل الوثائق المطلوبة، وتتبع مسار طلباتهم عبر الإنترنت. وتساهم الأنظمة الرقمية في تسريع عملية معالجة الطلبات، من خلال نقل البيانات إلكترونيا بين الأقسام المختلفة، ما يقلص الوقت المستغرق في التعامل مع الوثائق الورقية؛ فيما يسمح تتبع الطلبات عن بعد بشكل شفاف لهذه الفئة من المرتفقين بمعرفة وضعية طلباتهم في أي وقت، وتجنب الضياع أو التأخير غير المبرر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعاملات البنكية.
وأكد محمد كريم القادري، مستشار بنكي وخبير في الهندسة المالية، في تصريح لهسبريس، أنه “لتفعيل المنصات الرقمية الخدماتية بالشكل الأمثل يجب أن تواكبها رؤية اقتصادية شاملة، تضمن أن الأموال التي يتم تحويلها من مغاربة الخارج تستثمر بشكل فعّال، إذ تعتبر التحويلات المالية للمهاجرين مصدرا غنيًا للتمويل الخارجي، لكنها بحاجة إلى التوجيه نحو المشاريع الإنتاجية التي تخلق قيمة مضافة للمجتمع، وتساهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام؛ وهذا يتطلب إعادة هيكلة آليات التحفيز، وتبسيط الإجراءات البنكية والإدارية، بحيث تكون جاذبة للمهاجرين الذين يملكون إمكانيات كبيرة للاستثمار في المستقبل”.
وتابع القادري في السياق ذاته بأنه “من خلال استخدام المنصات الرقمية يمكن للمهاجرين إطلاق استثماراتهم بشكل أسهل وأسرع، مع ضمان أن تكون تلك الاستثمارات متاحة للمراقبة والمتابعة بشكل شفاف”، وزاد موضحا: “على سبيل المثال يستطيع هؤلاء المهاجرون متابعة مسار طلباتهم الخاصة بالاستثمار العقاري أو الصناعي عبر الإنترنت، ما يعزز من ثقتهم في النظام الإداري، ويساهم في استقطاب المزيد من الاستثمارات”، مؤكدا من جانب آخر إمكانية تطوير حوافز إضافية للمهاجرين من الجيل الثالث، الذين يمتلكون المهارات والخبرات في مجالات الابتكار والتكنولوجيا، وذلك عبر منصات خاصة تدعم المشاريع التي يستثمرون فيها؛ باعتبارها قنوات مبتكرة في الوقت نفسه، تجمع بين المعرفة المالية للمهاجرين والخبرات التقنية المتقدمة التي يمتلكونها، ما سيخلق بيئة اقتصادية تعزز النمو المستدام وتحفز على ريادة الأعمال وتطوير الكفاءات.