أعيد نهاية الأسبوع الماضي افتتاح كاتدرائية نوتردام دو باري في العاصمة الفرنسية باريس، بعد انتهاء أشغال ترميمها إثر الحريق الذي دمر أجزاء كبيرة منها في أبريل من العام 2019؛ وذلك بحضور عدد من رؤساء الدول والحكومات والأمراء، يتقدمهم الأمير مولاي رشيد، إلى جانب الرئيس الأمريكي المنتخب حديثًا، دونالد ترامب، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وعدد من رجال المال والأعمال.
ويُعتبر المغرب من أوائل الدول التي سارعت إلى تقديم مساهمة مالية لإعادة بناء هذه المعلمة التاريخية التي يحج إليها الملايين من المسيحيين في العالم، إذ عبّر الملك محمد السادس، في برقية بعثها إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مباشرة بعد الحريق الذي أثار موجة حزن عارمة في فرنسا، عن دعم المغرب وتضامنه مع الدولة الفرنسية في هذه الكارثة، كما أعطى تعليماته بتقديم مساهمة مالية لإعادة بناء كاتدرائية نوتردام دو باري، وفقًا لما أفادت به سفارة المغرب في باريس في ذلك الوقت.
وعززت هذه المبادرة الملكية، وفقًا لمهتمين، صورة المغرب كبلد ملتزم بقيم السلام والتسامح والتعايش بين الأديان، من خلال الدبلوماسية الروحية التي تعكس حرص المملكة على دورها في الدفاع عن القيم الإنسانية والتواصل الحضاري والحوار بين مختلف الديانات والثقافات، متجاوزة بذلك كل التصورات النمطية عن الإسلام والمسلمين التي تُروَّج لها بعض القوى اليمينية المتطرفة في أوروبا.
نموذج رائد
قال خالد التوزاني، أستاذ جامعي ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي “مساق”، متخصص في الأدب والتصوف والجماليات، إن “الدبلوماسية الروحية لجلالة الملك محمد السادس بوصفه أميراً للمؤمنين لم تكن مجرد تعبير عن مشاعر الأخوة أو التسامح بشأن حرية الممارسات الدينية، وإنما شكّلت أيضاً ممارسة عملية وواقعاً حقيقياً في الميدان، من خلال دعم أتباع الديانات الأخرى في بلدانهم وفي ترميم العديد من أماكن العبادة عبر العالم”، مضيفاً أن “المغرب تحول إلى نموذج رائد في إشاعة روح التسامح الحق عبر مبادرات عملية تسهم في التقريب بين البشر على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم”.
وأشار التوزاني إلى أن “الملك محمدا السادس كان من أوائل القادة والزعماء الدينيين الذين بادروا بالتعبير عن مشاعر المواساة للشعب الفرنسي إثر الحريق الذي دمّر كاتدرائية باريس عام 2019، ليتوج ذلك بمبادرة عملية تتمثل في تقديمه مساهمة مالية من أجل إعادة بناء كاتدرائية نوتردام دو باري، وهي المبادرة التي لقيت استحساناً دولياً، وخاصة من لدن أتباع المسيحية عبر العالم”، معتبراً أن “بادرة الملك تعبير عن التزاماته الدينية والإنسانية التي تتعلق بحماية الشأن الديني عبر العالم برمته، انطلاقاً من روح الشريعة الإسلامية التي جاءت رحمة للعالمين”.
وتابع المصرح لهسبريس بأن “الدعم المادي المغربي، الذي جاء بمبادرة خاصة من ملك البلاد لإعادة بناء كاتدرائية نوتردام بفرنسا، وهي الدولة التي استعمرت المغرب، يؤكد خُلق الرحمة والإحسان التي تطبع شخصية أمير المؤمنين في المغرب، ويؤكد ثوابت المملكة المغربية في أخلاق الرحمة واللين وحسن الجوار ودعم السلام والتسامح والوسطية والاعتدال والدفاع عن القضايا الإنسانية ضمن رؤية حكيمة تنظر للبشرية بعين الرحمة بوصفها أسرة واحدة، وهو المنهج الذي يعلي من شأن الإنسان وقيمته بغض النظر عن دينه أو عرقه”.
ولفت مؤلف كتاب “التسامح بين الأديان من منظور الدبلوماسية الروحية” إلى أن “هذه المبادرة تأتي بمثابة ترجمة عملية للأخلاق الإسلامية السمحة في الدعوة إلى التعامل مع الناس جميعاً باللين والرحمة، إذ تكشف عن سمو الأخلاق الملكية السامية التي تعمل على إشاعة الألفة بين الشعوب وتعزيز التفاهم بين الأديان، في وقت بات العالم في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه القيادات التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وتؤسس للسلام والتسامح والتصالح والعمل المشترك لأجل خدمة الإنسان والإنسانية”.
وخلص المتحدث إلى أن “هذه الدبلوماسية الروحية للملك تأتي انسجاماً مع الدور التاريخي الذي اضطلعت به المملكة المغربية عبر التاريخ بوصفها ملتقى للحضارات وموئلاً للسلام، إذ شكل المغرب على مر العصور نموذجاً فريداً في احتضان التنوع الديني والثقافي”، مشدداً على أن “الجهود المغربية التي يقودها جلالة الملك محمد السادس على هذا المستوى ليست مجرد مبادرات ظرفية، بل هي إستراتيجية ممتدة تهدف إلى بناء عالم أكثر تفهماً وتقبلاً للآخر، لتصبح الدبلوماسية الروحية للمغرب نموذجاً يُحتذى به في عالم يواجه تحديات متزايدة تهدد قيم التعايش والتعددية”.
إشارة قوية
أوضح فريد حسني، أكاديمي ونائب عمدة مدينة بانيوه جنوب باريس، ضمن تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “قرار صاحب الجلالة الملك محمد السادس المساهمة مالياً في ترميم كاتدرائية نوتردام دو باري قرار صائب يعكس الدور الذي يلعبه المغرب في تعزيز الحوار بين الحضارات والديانات، كما يعكس الدور المحوري الذي تضطلع به المملكة المغربية في الحفاظ على كل المآثر التاريخية أينما كانت”.
وأشار حسني إلى أن “هذه المساهمة المالية تعبر أيضاً عن الروابط والعلاقات القوية التي تجمع المغرب بالجمهورية الفرنسية، كما تعبر عن اهتمام المملكة وانخراطها في الحفاظ على التاريخ الفرنسي وعلى الهوية المسيحية لفرنسا ولو أنها دولة علمانية”.
وشدد نائب عمدة مدينة بانيوه جنوب باريس على أن “المغرب يعطي من خلال مبادرة مساهمته المالية لترميم هذه المعلمة التاريخية إشارة قوية إلى أنه بلد التسامح والحرية والتعايش بين الأديان، ونموذج في الترويج لقيم التعايش السلمي ونبذ الصراعات”، مشيراً إلى أن “المغرب يهدم من خلال هذه المبادرات كل الأفكار التي يروجها له اليمين المتطرف في فرنسا وفي أوروبا عموماً حول الجاليات المسلمة والمهاجرة، إذ إن مغاربة فرنسا موجودون في كل القطاعات السياسية والعلمية والرياضية في هذا البلد الذي يساهمون في بنائه مثلما يساهمون في بناء بلدهم الأصلي”.