فوق صفيح جيوسياسي متسارع تتحرك الأحداث في سوريا، بعد إطلاق فصائل المعارضة المسلحة عملية هجومية واسعة النطاق تُوجّت بفرار الرئيس المُطاح به بشار الأسد إلى موسكو فجر الأحد، الذي عدّه السوريون “يومًا مشهوداً” وعهدا جديدا في تاريخ بلادهم.
وفي صباح استثنائي استفاق سكان العاصمة السورية، الأحد، على مظاهر فرح وابتهاج مع إطلاق الزغاريد ولَعْلعة الرصاص في الهواء، وفق ما أفاد به مراسلون لوكالة “فرانس برس”، التي أكدت أن الإطاحة بالأسد ونَزْع أنياب نظامه جاءت بعد ساعات من بدء دخول قوات الفصائل المسلحة دمشق، في تتويج لهجوم واسع بدأته شمال البلاد في 27 نونبر، محققة تقدما واسعا وغير مسبوق منذ اندلاع النزاع في البلاد عام 2011.
وبينما شدّد المبعوث الأممي إلى سوريا (غير بيدرسن) على أن “الأولوية للحوار والوحدة وحقوق الإنسان”، فإنّه أبدى “أملا حذرا” بعد سيطرة الفصائل المعارضة على دمشق، قائلا إنها “لحظة فاصلة” أنهت حكم عائلة الأسد الذي امتد أكثر من خمسة عقود (13 عاماً منها شهدت اندلاع حرب أهلية دامية وتقسيماً لمناطق النفوذ في البلاد)؛ فيما كانت فرنسا ورئيسها ماكرون من أوائل المرحِّبين المتفاعلين.
ورغم “محدودية” ردود الفعل تجاه التطورات الدراماتيكية الطارئة والمستمرة، التي قد تتكشّف بعد مرور الوقت واستيعاب الأحداث، يَطرح سقوط حكم الأسد والانهيار المتسارع لأحجار “دومينو” النظام السياسي الذي حكمَ سوريا منذ عهد الراحل حافظ الأسد بقبضة من الحديد والنار عديدَ الأسئلة أكثر مما يُقدّم من الأجوبة، خصوصا عن وضعية الراهن وآفاق ومستقبل العلاقات التي كانت تجمع دمشق بعدد من العواصم العربية؛ وعلى رأسها الرباط.
علاقات “التوتر”
تأرجحت علاقات المغرب وسوريا، منذ أواسط ستينيات القرن العشرين، بين مؤشرات “التقارب والحذر”، قبل أن تستقر في مسار نفق التباعد الذي دخلته منذ 2012؛ تاريخ الإعلان الرسمي عن قطع المغرب علاقاته الدبلوماسية مع النظام السوري، إثر اندلاع المظاهرات المطالبة برحيل الأسد سنة 2011 قبل أن تتحول إلى حرب أهلية دامية.
وظلت سوريا منذ الستينيات من الدول المعترفة بميليشيات “جبهة البوليساريو” الانفصالية، فيما كان نظام بشار يؤكد موقفه باستقبال زعماء “الجبهة” وإعلان الدعم الصريح لها، بما يعاكس مصالح المملكة المغربية ووحدتها الترابية.
فهد المصري، رئيس جبهة الإنقاذ الوطني في سوريا، كان توقّع في حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية (نُشر الأحد 1 دجنبر)، “حدوث تغيرات هامة”، مفككا جذور التباعد بين البلدين، ومسجلا أن “المملكة المغربية كانت دائمًا متسامحة مع سوريا رغم إصرارها الدائم على ضرورة سحب دمشق اعترافها بالجبهة الانفصالية في تندوف”، ومشيرا إلى أن “عدم إبداء الرباط تحفظها إزاء عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية خلال قمة جدة التي انعقدت في ماي من العام الماضي كان بالأساس بسبب وجود توجه عربي لإبعاد سوريا عن المحور الإيراني، وفك ارتباطها العضوي بطهران”.
الفاعل السياسي السوري ذاته، الذي فكك في حديثه للجريدة جذور التباعد بين المغرب وسوريا، والدور الإيراني في شمال إفريقيا وحقيقة دعمها العسكري ميليشيا البوليساريو، أشاد بمساندة المغرب نضالات السوريين من أجل الحرية، وبالمبادرات الإنسانية المتعددة التي أطلقها الملك محمد السادس لفائدة الشعب السوري في سياق الأزمات التي عاشها بسبب الحرب.
تغيّرات وقطيعة
أكد لحسن أقرطيط، أستاذ جامعي متخصص في العلاقات الدولية والأنظمة السياسية، أن “خروج نظام الأسد من المشهد السياسي السوري ستكون له تداعيات على الموقف من قضية الصحراء المغربية؛ على اعتبار أن سقوط نظام بشار الأسد سيدفع، أوّلا، بسوريا إلى العودة إلى الحاضنة العربية”.
وأضاف أقرطيط في تصريح لسهبريس: “مغربية الصحراء تشكل مرجعية وإجماعاً في الموقف الرسمي العربي؛ وبالتالي فإن سقوط نظام بشار الأسد سيؤدي إلى تغيّر جذري في موقف سوريا، من خلال العودة إلى الحاضنة العربية وكذلك عبر إنهاء الموقف السابق الذي تمَثَّل في دعم جبهة البوليساريو، على المستوييْن السياسي والدبلوماسي”، قبل أن يستحضر ويتذكّر “مواقف سوريا ومندوبها نظامها بشار الجعفري في مجلس الأمن، التي كانت مُناكِفة ومعاكسة للدبلوماسية المغربية في ما يتعلق بمغربية الصحراء”.
“سقوط نظام بشار الأسد هو، إذاً، سقوط للمقاربة السياسية التي اعتمدتها سوريا في العديد من الملفات المرتبطة بالأمن والسلم الإقليمي وفي العديد من القضايا المرتبطة بأمن وسلامة الدول”، يخلص الخبير في العلاقات الدولية، مشددا على أننا “أمام فصل جديد ستتغير خلاله المقاربة السورية بشكل عميق، خصوصا تجاه قضية الصحراء المغربية”.
وفي الآن نفسه يرى المتحدث أن “تغيّر الموقف السوري سيؤثر –لا محالة- على مواقف مختلف المكونات والأطياف السياسية السورية؛ باستحضار عودة سوريا إلى الحاضنة العربية الذي سيتجسد من خلال إنهاء السياسات السابقة وقطيعة مع مواقف النظام السابق، الذي كان تاريخياً مرتبطا بمصالح المحور الشيعي في المنطقة”، مسجلا أن “سقوط نظام بشار الأسد هو إنهاء لما عُرف بـ[الهلال الشيعي] ليسمح بعودة سوريا إلى الحضن العربي، كما يعد ابتعادا عن المحور الإيراني وعن مواقف طهران”.
“من مصلحة سوريا -الآن- بعد سقوط نظام بشار الأسد تطبيع العلاقات مع المملكة المغربية سياسياً ودبلوماسيا، خصوصا عبر بوابة الصحراء المغربية، بإعلان موقف جديد لدمشق بخصوص هذا النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء”، يؤكد أقرطيط الذي ختم: “بالتالي من المصلحة الإستراتيجية للحكومة السورية القادمة أن تعتمد سياسة خارجية تتماهى مع المصالح العربية. تغير الموقف سيؤدي إلى تطوير العلاقات مع الحكومة السورية بما يخدم مصالح الشعب السوري، لأن تحالف سوريا سابقا مع النظام الملالي أثّرَ على مصالحها وتردّى الوضع الاقتصادي والاجتماعي للسوريين”.
“في الانتظار”
قال محمد نشطاوي، أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة القاضي عياض–مراكش إنه “من السابق لأوانه استنتاج الموقف المغربي مما جرى في سوريا”، موردا في تصريح لهسبريس: “صحيح أن العلاقات المغربية السورية لم تكنْ علاقات جيدة، خصوصا في ظل اعتراف نظام دمشق بالبوليساريو، وتجاذب وجهات النظر حول عديد القضايا، ولاسيما قضية تعامل الأسد مع المعارضة، التي أفرزت الحرب الأهلية لسنة 2011 وما نجم عنها من تداعيات إنسانية وسياسية وجيوستراتيجية كبيرة”.
وتابع نشطاوي، محللا أبعاد الأحداث الدراماتيكية: “…حاليا المعارضة ستحاول قدر الإمكان إرسال إشارات التهدئة إلى مختلف الدول، وسوف تحاول على الأقل في الفترة المقبلة تركيز دعائم سيطرتها على المشهد السياسي في سوريا”، وزاد: “ما سينجُم عنها من إشارات، سواء في علاقتها مع تركيا أو إيران وكذلك إسرائيل، وعدد من الدول العربية، خصوصا المملكة العربية السعودية وقطر، هو الذي سيمكّن من تصور طبيعة النظام الذي سيتم تطبيقه”، قبل أن يطرح استشراف الآفاق بالتساؤل: “هل سيكون على غرار ما حدث في ليبيا من تشتت المشهد السياسي، أم سيكون على غرار ما حدث في أفغانستان؟”.
واستحضر أستاذ العلاقات الدولية حقيقةَ أن “الدبلوماسية المغربية المعروف فيها أنها هادئة غير انفعالية، سوف تحاول التقاط الإشارات المرتبطة بموقف المعارضة من كلّ ما يجري، سواء استمرار الحرب في غزة، أو في جنوب لبنان، وموقفها من إيران، وحليفها حزب الله؛ فضلا عن موقفها وتعاملها مع الميليشيات الشيعية بالعراق”.
وخلص المتحدث ذاته إلى أن “اكتمال المشهد سيعطي صورة تقريبية لكيفية التعامل الإقليمي/العربي مع المعارضة، وقدرتها على الحكم والتحكم بعد سنوات طويلة من نظام الأسد، الذي استعاد مقعده في الجامعة العربية بضغط من عدد من البلدان، ولكن في ظل رفض عدد من البلدان الأخرى، خصوصا قطر”، وختم بأن “تطورات الأيام القادمة ستخبرنا بذلك”.