لكأن الصور القديمة باللونين الأبيض والأسود التي يضعها ثلة من مهنيي التصوير بالمغرب على جدران استوديوهاتهم، تحدث الناظر إليها عن إفراط هؤلاء في الحنين إلى حقبة كانوا ينعمون خلالها في الرغد، قبل أن تزحف الرقمنة رويدا رويدا، فتغني الناس عن خدماتهم، واحدة تلو الأخرى، إلى أن بات قصدهم “مقتصر الغرض على التقاط صور التعريف التي تمس الحاجة إليها في الوثائق الإدارية نحو بطاقات التعريف الوطنية وجوازات السفر”.
هذا الطرح كان طاغيا في صرخات مدوية للمصورين، استمعت إليها هسبريس، بعدما زارتهم في محلاتهم المتفرقة؛ فقدموا صورا متعددة للمشاكل التي تنذر “بتزايد الفرار من القطاع”، خصوصا ارتفاع ضريبة الرقمنة، بعدما بدا أن “الصورة الرقمية تغني عن المطبوعة لسنوات طوال في المدارس كما بالنسبة للباحثين عن العمل”، ومزاحمة “السماسرة” للمهنيين بالقنصليات لهم على “صور التأشيرات”، بطرق “لا تخل من صيغ احتيالية تنقص مدخول الأخيرين، وتسيء لسمعتهم”.
المهنيون لا يبدون حماسا كبيرا لتعويض “الخسائر” الناشئة عن هذه المشاكل من مداخيل التصوير الخارجي؛ فهي الأخرى تتضاءل يوميا، بعد “تغول احتكار أرباب قاعات الحفلات للميدان”، ما يطرح تحديا يضاف إلى العقبات سالفة الذكر، التي يمكن “تذليلها لو أن آذان المسؤولين تلتقط فقط مناشدات المصورين بالهيكلة”، كما يشددون.
صور التعريف
ولجنا أستوديو “أوبرا” بحي تابريكت بسلا حيث التقينا زكرياء بومريت، مصور مهني، يشرح بتفصيل لأحد الزبائن أنواع صور التعريف اللائقة لكل وثيقة من وثائق إدارية يريد إنجازها. هذا المشهد تبين أنه الطاغي في يوم عمل المهني؛ فقد صرح بأن “المختبرات لم يعد يقصدها الأفراد دون غرض إنجاز صور التعريف الخاصة بالأوراق الإدارية، إلا نادرا”، مسجلا بنوع من الحسم أن “لي ما تابعوش لا كارط ولا لباسبور ناسيونال، راه مغتشوفوش هنا”.
وتذكر بومريت الذي يشتغل في مجال التصوير منذ تسعينات القرن الماضي، بأن “في تلك الفترة، كانت ثقافة الصور رائجة، إذ تجد أسرة أو أصدقاء يقصدون المختبرات لالتقاط صور جماعية، دون مناسبات أو داع سوى توثيق العلاقات؛ فيما كان هواة الأفلام بدورهم يساهمون في هذه الدينامية”. مضيفا: “أما اليوم، فالتطور التكنولوجي الذي أتاح للناس تملك هواتف ذكية قادرة على التصوير بأعلى جودة فتعديل الصور الملتقطة، جعل القطاع يزحف تدريجيا نحو الوراء”.
لقد عمقت عناصر متداخلة من قصر التصوير الخارجي على توثيق حفلات الخطوبة والأعراس تراجع مداخيل المهنيين جراء زحف الرقمنة، وفق ما أوضحه المتحدث لهسبريس، شارحا بأن “هذه الحفلات ظلت لمدة طويلة بعد جائحة كورونا تقتصر على عدد ضئيل من المدعوين، ما كان يحفز أصحابها على الاستغناء عن المصورين. فأُثقل كاهل المستفيدين من برامج تمويل المشاريع، أساسا برنامج انطلاقة، بالديون، وباتوا إلى الآن غارقين في المحاكم”.
أما اليوم، فبعد تبدد تداعيات الجائحة، يضيف المهني ذاته، “أمست قاعات الحفلات نادرا ما تشتغل أساسا. فحتى في الأيام التي تواضع الناس على تنظيم أغلب الأعراس خلالها، تحديدا السبت، نجد قاعة واحدة، أو اثنتين على أقصى تقدير، محجوزة، وتكاد فرص المهنيين في تصوير الحفل المقام بها تكون ضئيلة إلى منعدمة”.
ضريبة الرقمنة
لا يبدو أن أحمد حياة، وهو مصور مهني مالك لأستوديو “الزهراء للتصوير” بمدينة تمارة، ناسجا على غير منوال زكرياء، فقد أكد أن “الشيء الوحيد لي معتامدين عليه هو الصور الشمسية للتعريف المعتمدة في بطائق الهوية: الباسبور، ولاكارط ناسيونال”.
إن “هذه الصور بدورها لم يعد يعول عليها المهنيون؛ فغالبية الزبائن باتوا يحبذون الحصول على الصور الرقمية التي تجعلهم في غنى عن المهني مدة أربع إلى خمس سنوات”، يقول حياة متحدثا لهسبريس من داخل محله.
ويضيف مشيرا إلى أمثلة رائجة في هذا الشأن: “الباحث عن العمل قديما كان يتردد على المحل كلما أراد إعداد سيرة ذاتية. أما اليوم، فتكفيه صورة رقمية نرسلها إليه عبر البريد الإلكتروني أو يقوم بمسحها، فيستخدمها في أي موقع يريد التسجيل فيه، أو عند طبع سيرته الذاتية في أي فرصة عمل يتقدم لها. فيما المدارس باتت بدورها تكتفي بصورة التلميذ خلال المستوى الأول. إذ تقوم بمسحها واستخدامها في الوثائق الخاصة به لسنوات”.
ومن اللافت للانتباه داخل مختبر المهني ذاته، بخلاف الخاص ببومريت، اصطفاف إطارات الصور على رفوف داخل محله. إنها وفق ما يقول “غالبا ما تظل حتى تتكسر فتلقى خارجا؛ فلم يعد يرغب أحد بشرائها هي الأخرى”.
سماسرة في المهنة
يضع المصورون أعينهم على مئات الطلبات على صور التعريف الخاصة بالتأشيرة؛ فلو تناثرت على جميع محلاتهم، “لكان بإمكان كل واحد منهم أن يبقى قادرا على الاستمرار وتلبية مصاريف التشغيل اليومية”. غير أن بعض “السماسرة المتربصين خلف أسوار القنصليات يأبون إلا أن يسدوا منفذ الرزق هذا كذلك على المهنيين”، يكشف أحمد حياة.
وتابع شارحا: “هؤلاء يحتكرون هذا الميدان، بالتوسل بممارسات لا تخلو من الاحتيال؛ إذ حينما تصلهم صورنا يقولون للزبائن إنها غير صالحة، ويسوقون لهم مبررات غير معقولة من قبيل كون خلفية الصورة يجب أن تكون بيضاء”، مشيرا إلى أن “صور السماسرة غالبا ما تلتقط بـ60 أو 80 درهما”.
“هذه الممارسات الاحتيالية تضر بنا ماديا؛ إذ تفوت علينا الأرباح، وكذلك معنويا؛ إذ تخدش صورتنا لدى المواطنين وثقتهم بجودة الخدمات التي نقدمها”، يردف المتحدث بنبرة متأسفة.
وبالنسبة للتصوير الخارجي الذي تعد مداخيله حيوية لإبقاء مختبرات التصوير قائمة، فبات بدوره، كما قال المصور المهني لهسبريس، “محرما على المهنيين؛ إذ نجد أصحاب قاعات الحفلات يشغلون مصورين خاصين بها، يسددون لهم الأجور شهريا أو حسب الاتفاق؛ فيستفيد هؤلاء الأرباب من أرباح ربورتاجات الأعراس كاملة”، مجملا بنوع من التسليم بأن “مداخيل المصورين من كل الروافد تأبى إلا الانحدار”.
زيادة التسعيرة
في بداية نونبر الماضي، وتماشيا مع قرار الهيئة العليا لمهني التصوير بالمغرب مراجعة لائحة الأثمنة المقدمة للزبائن، حصلت “زيادة قدرها عشرة دراهم في أثمنة صور التعريف بجميع أنواعها، إذ انتقلت من 30 درهما إلى 40 درهما”.
وبررت الهيئة عينها هذه الزيادة بأنها “نتيجة للارتفاعات المهولة والمتتالية لأسعار جميع المواد الأولية ومستلزمات ومعدات التصوير الفوتوغرافي”، لافتة إلى أنها تهدف أيضا إلى “مواكبة التطور الحاصل في مهنة التصوير وضمانا للاستمرارية في تقديم الخدمات للزبائن بالجودة المعهودة”.
ووفق ما عاينته هسبريس من تعليقات على نبأ قرار الزيادة، فإن الانقسام ساد آراء المواطنين للأخيرة، بين معارض يرى أنها “غير مبررة نظرا لارتفاع نسبتها (25 في المئة) ولكون القطاع لا يستخدم مواد أولية مشمولة بالغلاء كالمحروقات”، ومؤيد متعاطف يقول إنها “طبيعية ومتفهمة في ظل زحف الرقمنة على القطاع، ولكون الحاجة إلى هذه الصور لا تكون إلا في فترات متباعدة غالبا ما تقدر بسنوات”.
أثرنا الموضوع مع المصور أحمد حياة، فعاجلنا بأن “هذه الزيادة لن تكفي لتغطية التكاليف الملتهبة للصور وتوفير هامش ولو ضئيل من الربح للمهنيين”، مضيفا ونظره على أحد كناشات المحل أن “مدخول المهنيين باعتماد هذا الثمن (40 درهما) لا يتجاوز في أغلب أيام الأسبوع، باستثناء اليومين الأولين، 200 درهم”.
ويشكو هذا المهني كما زكرياء بومريت غلاء تكاليف مختبرات التصوير، مبرزا أن “سومة الكراء تجاوزت 4000 درهم، وأجر العامل الواحد لا يقل عن 2500 درهم، فضلا عن قفز ثمن ورق التصوير الفوتوغرافي بـ800 درهم في السنوات الأخيرة. وإذا أضفنا مصاريف الهاتف والكهرباء، فإن تكاليف الأستوديو الشهرية تصل إلى 8 آلاف درهم”.
الخلاص المنشود
“الهيئة من خلال الزيادة سالفة الذكر لم تقصد رفع الثمن، وإنما أرادت إطلاق صرخة للفت الانتباه إلى المشاكل التي يعاني منها المهنيون وتهيئ الظروف الكفيلة بجعلهم قادرين على الاستمرار في مزاولة هذه الحرفة”، يورد المصور عينه، مردفا بأنها “جاءت كذلك كتفاهم بينهم من أجل عدم الدخول في منافسة هدامة تضر بالجميع؛ إذ إن البعض يعتمد ثمن 10 دراهم لصور التعريف لا لشيء إلا للإضرار بجاره الذي يمارس المهنة ذاتها”.
وأشار المتحدث لهسبريس إلى أن مثل هذه الممارسات هي أحد تداعيات “غياب الهيكلة في القطاع”، مضيفا أنه في انتظار أن تقوم الدولة بهذه العملية “ويأتي المسؤولون إثر ذلك للجلوس مع المصورين وجرد عدد المحلات المتواجدة وحساب مداخليهم، فإن المهنيين سيكونون مستعدين للامتثال للثمن المرجعي الذي تقترحه الدولة”.
إن “عدم هيكلة القطاع وتقنينه جعلا أبواب الدخول إليه مشرعة أمام كل من هب ودب؛ إذ بات الشرط الوحيد لتصبح مصورا توفرك على آلة تصوير”، يقول حميد زينون، صاحب مختبر للتصوير بمدينة سلا، لهسبريس، كاشفا أن “العشوائية تنخر القطاع لتعمق معاناة الحرفيين المهنيين”.
ولا يمانع هذا المهني، مبدئيا، أن “يساهم الميدان في امتصاص البطالة، ولكن ذلك ينبغي أن يكون بضوابط صارمة، منها توفر الراغبين في فتح محلات للتصوير على دبلوم في المجال، خصوصا وأن الطلب بات شحيحا إلى حد أن مختبرات يتوافد عليها طيلة اليوم زبون أو زبونان فقط، وبغرض إنجاز صور التعريف لا غير”.
وقال إن “الهيئة العليا لمهنيي التصوير بالمغرب قامت بخطوة مهمة في اتجاه الهيكلة، من خلال إعدادها مسودة مشروع قانون لتنظيم مزاولة المهنة، تم تقديمها لرئيس الحكومة السابق خلال لقاء جمعها به في ماي 2021 لتدارس استئناف النشاط بعد الجائحة، ولأحد الفرق البرلمانية للترافع عن هذا القانون المأمول”، مردفا بحسرة بالغة أن “ما آلت إليه هذه المسودة بسبب غياب تفاعل الحكومة الحالية معها، جعل اليأس يتسلل إلى المهنيين”.
هذا المشروع لم يكن التحرك الوحيد للمهنيين للنهوض بأوضاعهم، فقد واجهوا “الاحتكار الغريب من قاعات الحفلات للتصوير بها من خلال فرضه على الزبائن ضمن قائمة الخدمات المقدمة”، وذلك عبر “مطالبة المديرية العامة للضرائب في لقاء معها بتضريب مداخيل هذه القاعات من التصوير”، وفق ما كشفه زينون، خاتما بأن “الإدارة تتمسك بتقديم وثائق تفيد بقيام القاعات بهذا الأمر، ولأن هذه الوثائق غير موجودة، فإن القطاع سيبقى محكوما عليه بأن يظل تحت مقصلة الاحتكار”.