بمقرّ حزب التقدم والاشتراكية بالعاصمة الرباط، قدم عالم الإناسة والاجتماع المغربي البارز عبد الله حمودي، الأستاذ بجامعة برينستون الأمريكية، درسه الافتتاحي، مفسّرا مشروعه “نحو علوم اجتماعية عربية”، وموضّحا رأيه انطلاقا من هذه الرؤية في تخصّصه، والكونية أو الكونيات، والنّظر لواقع الاجتماع البشري فهمه.
وفي تقديم المحاضرة الافتتاحية التي نظّمتها مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة، قال أمينها العام خالد السفياني: “لقد مُنِعنا عمليا من تنظيم درس مع عبد الله حمودي بالمكتبة الوطنية، وبعد وضع الملصقات اتصلوا يومين قبل الموعد واعتذروا من مشكل في الكهرباء، حتى عندما اقترحنا إصلاحه نحن. أما في كلية الآداب بالرباط، فقد رُفض استقبالنا لمدة عشرة أيام كاملة، ولو أن الفضاء الحقيقي للدرس هو الكلية (…) أقول هذا لنعرف كيف تسير الأمور”.
السياسة والعلم
قال الأنثروبولوجي والسوسيولوجي البارز عبد الله حمودي إن ما يقترحه في مشروعه “نقد يحاول تطوير المعرفة وأفقها”، مع ذكره أنه رغم عدم إخفائه “ميوله السياسية”، إلا أنه يدافع عن “الصرامة المنهجية والحجّة” دون ادعاء “قطيعة بين الميدان السياسي والميدان العلمي”، بل إيمان “بأن التسلح بمنهجية دقيقة وصارمة يقلص من الحمولة الإيديولوجية، أو من الميول الخاصة”.
حمودي في مستهل محاضرته الافتتاحية قال إن محمدا عابد الجابري “كان رجلا متفتحا”، مردفا في مقر “التقدم والاشتراكية” الذي كان “الحزب الشيوعي المغربي”: “كنتُ قريبا من الحزب الشيوعي لما كنت طالبا، بمعرفة الأستاذ عزيز بلال، ولقاء الأستاذ علي يعتة ببيته، والعلاقة مع المرحوم سيمون ليفي، وكانت العلاقة دائما فيما يخصني محاولة الالتزام بالحرية النقدية، وكان الزمان زمانا عصيا للأحزاب التقدمية والسلطوية الحاكمة آنذاك (…) وابتعدت من الالتزام السياسي والتزمت بيتي، والتزمت بالبحث وبالنقد والتشخيص الثقافي كأداة لمعرفة المجتمع وتطوراته، وأداة للتفكير في أفق المستقبل، وهو التزام لم يفارقني، وأمارسه إلى الآن”.
هذا الالتزام، وفق حمودي، يؤمن بـ”التبليغ للآخرين الأصغر والقادمين، لأنك تعي أن وقتك محسوب، ونحن زائرون في هذه الدنيا، وقناعتي دائما أنني مكتر بالدنيا، وعليّ تبليغ وتبادل شيء نافع”.
أنثروبولوجيا عربية
تحدث عبد الله حمودي عن العلوم الاجتماعية التي يقترحها للنقاش، وهي “أنثروبولوجيا عربية” بالمعنى الواسع للغة العربية الشامل للثقافات والمجالات التي كتبت بها، والأرصدة التي دُوّنت بها، مردفا: “في تكويني وبداياتي كانت الأنثروبولوجيا منبوذة باسم نزع الاستعمار عن المعرفة، وكنتُ أقرأ وأنا موظف في المجال السوسيولوجي في ورزازات بمؤسسة للأبحاث الزراعية شيئا كُتِب عن المنطقة في عهد الحماية (…) وقيل لي لا يجوز قراءة كتابات المستعمرين”.
في هذه الفترة كان هم حمودي “التأسيس لشيء مغربي، علم اجتماع وأنثروبولوجيا، وسؤال ماذا نفعل بالإرث الكولونيالي؟ كان لي حدس بأنه لا يمكن التخلي عن ذلك الرصيد. لكن كيف أهضمه؟”.
ثم استرسل قائلا: “العلوم الاجتماعية اليوم هي في أزمة عميقة، والأنثروبولوجيا بالخصوص تعرف دائما أزمات طويلة، وتتطور بفعلها، وتضل طريقها وتبحث في طرق عدة ومتشعبة وتكون مناسبة لبناءات جديدة وجزئية، فالأزمة هنا بالنسبة لي عميقة، وهي شيء طبيعي، وبعد مرور سنين الأزمة، الأزمة لا تزال سائدة، وهي بؤرة التجديد، فبدون أزمة يكون الجمود، هذا في مجال الحياة الاجتماعية، والمعرفة ميدان من ميادينها”.
إذن، تأتي العلوم الاجتماعية التي يقترحها عبد الله حمودي مقتبسةً، لكن بوعي أنه “يحصل تغيير في الاقتباس وبعد الاقتباس، وتحت التدقيق تتغير أسس الاقتباس والمعرفة”؛ فهي “تجديد” و”توطين للمعرفة، يحاول تجاوز الاقتباس، وفيه عملية اختراع خطاب مستقل نسبيا في إطار العلاقات مع مجموعات بشرية ومعرفية أخرى”.
ما معنى “عربية”؟
وضح عبد الله حمودي أن “مشروع أنثروبولوجيا بلغتنا العربية، لن يتمّ بإقصاء للغات أخرى في وطننا أو في أوطان أخرى، بل منطلقُه أنني حقيقة تربيت، وأنا أقبل هذا، على تقليد فيه العربية هي لغة المعرفة والعلم، مع أني تكونت بالفرنسية والإنجليزية. وأقول إن العربية وطن كبير ولها رصيد علمي، وكما فكرت بما سأفعلُ برصيد الحماية الموروث بالفرنسية والإنجليزية، دفعني التفكير إلى العناية بالموروث باللغة العربية؛ فللعربية معارف في كونها هي، وفي أسس الاجتماع والمعرفة التي كتب فيها الناس والمحللون باللغة العربية سابقا، وفيها رصيد قوي يعتني بالمجتمعات العربية بصفة عامة، مع التعدديات اللغوية والإثنية الواجب ذكرها، ورصيد في معرفة المجتمعات غير العربية، مثل الهند ومجتمعات بإفريقيا وقارات أخرى”.
وفي هذا “لا تختلف المجتمعات العربية كما عرَّفْتُها تاريخيا عن مجتمعات أخرى؛ فلها اعتناء بالأنا والآخر، إن صح هذا التعبير”.
ثم أضاف: “العربية كتبَتها أقلام متعددة وهويات متعددة، عربية وفارسية، وديانات مختلفة، منها اليهودية والمسيحية، فلا قومية ولا شوفينية هنا، رغم ما قيل عن التنظيمات السياسية والدينية وغيرها (…) وفارس ساهمت في تكوين اللغة العربية بتكوين نحوها والكل يعرف سيبويه، وكان ببغداد وغيرها تعدد ثقافي ولغوي وتعدد في المشارب والإثنيات وغيرها، ولا أدل على تعدد العربية من تعدد الأندلس…”.
إذن، “المعنى هو علم اجتماع وأنثروبولوجيا بلغتها العربية، معنى يدخل فيه كل من كتَب بتلك اللغة مهما كانت مشاربه وأصوله، والمعروف أن الأصول كانت متعددة في زمان الازدهار الإسلامي”، وبدل سؤال “ماذا طرأ بعد؟”، الذي ليس موضوع جوابِ درسه الافتتاحي اليوم، طرح سؤال: “ماذا أفعل بذلك؟”.
وأردف عالم الاجتماع قائلا: “بعد النهضة الأوروبية والهيمنة والاستعمار، والتعلم المباشر بلغة المستعمر والمهيمن، وتعلم الرصيد في تلك اللغة، لنا رصيد آخر حاولت تلخيص ماهيته. والمشروع أساسا مشروع وساطة وترجمة، يحاول أن يستنتج من مقابلة ما هو عربي وغير عربي، بالمعنى الذي أعطيته للكلمة، وحكي للآخر، وفيه كيف نستعمل وكيف نركّب شيئا جديدا هو علوم اجتماعية عربية في ظروف اليوم؟”.
نقد مفهوم “المجتمع”
هذا المشروع “أتى في خضم أزمة العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية خصوصا، في البلدان الغربية فرنسا وأمريكا وغيرها، وهي أزمة وأزمات، مجتمعية وإبستيمولوجية، وأزمات في الأسس الفلسفية للمعرفة، ويتم النقد الجذري في المؤسسات الغربية نفسها وبلغاتها، وطبعا كان باسمه أشياء متعددة: النقد باسم العلاقة بين الذات والموضوعية، ونقد الموضوعية كما كان متعارفا عليه في الجامعات الغربية والكتابات؛ والحصيلة أن الموضوعية محدودة بميول سياسية، ومصالح، والهيمنة الكولونيالية، ومسألة النوع: رجال ونساء، وتعدد الأنواع فيما بين البين والميول والأنواع الأخرى؛ فتشعبت المسائل والانتقادات، ودائما تعصف بالأنثروبولوجية والسوسيولوجية وغيرها، وفي ظلها يكون تراكم بتجديدات تروم بناء خطاب بشمول أكثر (…) أو اختراع ميادين أخرى مثل الدراسات الثقافية في محل الأنثروبولوجية، والسوسيولوجيا الجديدة، التي يوجد من يسميها دراسة الشبكات المحلية والعالمية”.
في العلوم الاجتماعية، وفق حمودي، “مفهوم المجتمع فيه تغيير ونقد الآن”. وتابع شارحا معنى ذلك بالنسبة لمشروعه: “نشأة السوسيولوجيا في فرنسا مع دوركايم وتلامذته كانت مرتبطة بأزمة المجتمع الفرنسي والأوروبي، وما عاشوه من تغيرات وتحول جراء العصرنة الصناعية، والإنتاج الجديد، وإعادة تركيب المجتمع، والهم الأكبر كان كيف نحاول اختراع رابط جديد بين الناس. فهذه سوسيولوجيةٌ مبنية على مفهومِ المجتمع، وهو في أزمة اليوم، وتوجد محاولات لمفهوم جديد، يعكس تحولات العالم اليوم. والأزمة، فرصة لتقدم العلم والمعرفة، وتجديد النقاش، وهي أزمة خلاقة لا أزمة تخريب فقط ورفض، بل في بعض جوانبها هي تطوير”.
وزاد: “علم الاجتماع بصفة خاصة، في أزمة، لا بد من حل جوانبها باستعمال الأرصدة غير الأوروبية مثل الرصيد المكتوب بالعربية؛ ففي هذا الرصيد لا وجود لمجتمع، بل يوجد اجتماع بشري عند ابن خلدون مثلا، وطبعا المفهوم الجامع كان مفهوم عمران، وكما فُكّر في أصول مجتمع، يمكن التفكير في أصول عمران، والمفاهيم التاريخية تنفع”.
ووضّح حمودي أن “هذا المفهوم ربما أشمل من (مجتمعٍ)، فـ(مجتمع) مفهوم خاص. بهذا تُقلب الموازين، ولا يبقى هذا المفهوم العام الكوني، بل (عمران) يكون هو المفهوم الأشمل، ويصير السابق (عُمران) وسيلة لنقد اللاحق (المجتمع)”.
وأضاف أن الأساس ليس “القول بالأسبقية، ولو أنها مهمة في موضوعات تعلقت بها المفاهيم الغربية بعدا وزادت عليها”، بل “يمكن استعماله لنقد جوانب من المفهوم الجديد: مجتمع وتكملته، بمقاربة ونظرية ابستيمية؛ فما جاء من قبل ليس الوسيلة الوحيدة، بل يمكن به نقد ما جاء من بعد؛ فتَتَكوّن النظرة لِكونيّةٍ جديدة، ليست معطى مستقرا في ثقافة وجماعة، بل معطى بمستقبل، نتعاون كلنا ونتنازع في إعادة بناء الكونية، وهي دائما أفق، لا معطى جامد، أو احتكار”.
وعزز حمودي نقده مستحضرا القبيلة وكيف فسرتها مصادر كتب بالعربية، ثم كيف فسرتها مصادر كتب بالفرنسية والإنجليزية في وقت لاحق، قائلا: “التعريفات والتراتيب في الإنجليزية والفرنسية جمدت القبيلة وجعلتها شيئا مستقرا (…) بينما التصنيفات العربية دينامية، لأن القبيلة قد تكون صغيرة وتتشعب وتدخل أحلافا، وتصير قبيلة كبيرة مثل قريش (…) بينما فهم الفرنسيون القبيلة وفي خلفية فكرهم تنظيم الدولة في فرنسا، فكانوا يرون ازدواج تعريفها لدى البعض فرعا وحلفا وقبيلة؛ تناقضا ومحدودية فكرية (…) بينما مصادر مثل كتابات ابن منظور، وابن خلدون، والنسّابة العرب تفهم هذا، ولم يطرحوا المشاكل التي همت محللين بالفرنسية والإنجليزية، وعند العرب القبيلة غير قارة، والتسميات تتغير. بل إن ابن خلدون لم يكن يهتم بالقبيلة بل بما يحركها وأسماه (العصبية) (…) بينما التعريفات الأوروبية ستاتيكية، وهذا ليس نقدا قدحيا، بل استنتاج لأنه ما جاء بعدَ التعريفات العربية ليس بالضرورة أشمل وأجود”.
ما المطلوب إذن حسب حمودي؟ يجيب: “حكّ وبرد المعرفة الغربية بالعربية، والعكس، وعبرها يمكن استخراج خلاصات لم تظهر في الكتابات إلى الآن، وهذا نموذج لاستعمال النقد المقارن للأرصدة المعرفية، وبعد ذلك يكون النقد أو التفكير في مسببات ذلك (…) علم الاجتماع كما نريده يعيد التنظير والتركيب لظاهرة معاشة: تداخل ما هو مدون بلغة الكتابة، وما هو غير متداول ويتداول يوميا، والتداخل بينهما، ومعايير وقواعد التبادل بينهما (…) فيلغي تقسيم العمل الاستعماري للأنثروبولوجيا؛ بين الاستشراق للمصادر المكتوبة، والإثنولوجيا للشفوية”، علما أن هذا العلم “لا يلغي التجزيء (المعتمد في المناهج الفرنسية) بل إنه يجزّئ في الأبحاث الجديدة ما بعد الكولونيالية”.
وشرح دعواه قائلا: “كانت الكتابات الكولونيالية الفرنسية تشخّص الأجزاء، وتركّبها في مغرب من تصورها؛ أفقا للاندماج في المنظومة الفرنسية التي تصوَّرَتها منظومة كبيرة، زمن الكولونيالية، ولا يمكنني طبعا وضع الأشياء في نفس التصور. فما التصور البديل؟ إن الأجزاء والتجزيئية وصف وتحليلٌ، لا يختلف كثيرا بيني وبين من سبقوني من علماء الاستعمار، لكن الاختلاف في كوني أقول: لا بد من الأخذ بعين الاعتبار المغاربة والمغربيات، فبينما كان البعض يجزِّئ ويضع الأجزاء في أفق تكون مجموعة فرنسية كبيرة إمبراطورية، كان هم المغاربة كيف نتحرر من الاستعمار ونبني مستقبلا من صُنعِنا، وفي تصورنا للمستقبل كان نفيٌ للإمبراطورية الفرنسية”.
إذن، يقترح عبد الله حمودي “علم اجتماع وأنثروبولوجيا مرتبطة بهموم الناس، التي تفند النظرة المستقبلية للكولونيالية، والتركيب الكلي والنظري المستنتج من علماء الاجتماع الفرنسيين آنذاك”، وهذا يقتضي بالضرورة “الاستيعاب التاريخي للرصيد المعرفي وغير المعرفي، لوضع علم اجتماع وأنثروبولوجيا متجدد باللغة العربية، ومفاهيم تجدد وتحلّ محل المفاهيم والمفردات بالإنجليزية والفرنسية، وهي بالأساس عملية ترجمة صعبة، لا ترجمة من نص يسمى أصليا عربيا إلى فرنسي أو العكس، ولكنها ترجمة بمعنى إعادة تأويل، وإعادة الفهم (…) مع النقد الخلّاق، والاستعمال الهادف”.
ما قبل الحداثة
تحدث عبد الله حمودي عن أحدث كتبه “ما قبل الحداثة”، قائلا: “اهتممت بكتابات البيروني في الحادي عشر الميلادي، أي قبل قرون مما سمي زمن الأنوار، وكان قد اهتم بالمجتمعات الهندية، وفي كتابه (كتاب الهند) كان مهتما بتمحيص ما كتب عن الهند لتشخيص ما قد يقبله العقل أو ما يرفضه العقل (…) وهو فيلسوف وفقيه ورجل علم ورجل ثقافة، يحتكم إلى العقل. ولمّا محّصت تصنيفاته للهند، في كتابه الغني والفريد من نوعه، وجدته يشخص ويقول إنه يحتكم للعقل، ويريد أن يتعالى عن الأهواء، يريد نوعا من الموضوعية والحياد، لدرجة أن مستشرقينَ كتبوا أنه لما تقرأ البيروني تشعر كأنه ليس بمسلم، فهو كوني، والمعيار بقي عندهم أوروبيا فقارنوه بغوته ودافنشي اللذين جاءا بعده”.
وأضاف حمودي: “قال البيروني: لا أكذب على الهندوس وآتي بأشيائهم كما يتصوّرونها، ورغم أني قد أستَفْظِع بعض المظاهر أحاول الكتابة فيها بتعال عن الأهواء والميول… هذا ما يقول بعض المحللين إنه عصري وحديث في ما قبل الحداثة. وما أقوله غير هذا: البيروني وغيره ممن كتبوا بالعربية، وهو من أصل فارسي، يكتب بمعايير جاء بها أوروبيون بعده، إنه سابق. إنه مسلم، وصادق على ما يبدو في إسلامه، ويكتب بحياد ولا يمزج بين عقيدته، ومعايير الكتابة، والعقائد التي يشخصها في الهند يأتيها بوجهها، ولا يجادل دينيا فيها لأن هذا كما ذكر ليس موضوع الكتاب، ولا يخلط ما يستفظعه من عقائد بما يكتب. هذا شيء تعلمناه في الأنثروبولوجيا في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، لما كُنت أدرس بالفرنسية”.
ما معنى هذا؟ يجيب صاحب “الأضحية وأقنعتها” و”الشيخ والمريد”: “الرجوع معناه، في نظري، لا إثبات أن الإسلام سبق الغرب، رغم أنه سابق في العديد من الميادين، بل المهم هو ماذا أفعل بالبيروني اليوم؟ أرجع إليه، وأفكر بوسيلة فكره، وأفكر معه، وأفكر ضده في نظرية تقبل وتنتقد، وأستعمل الرصيد لبناء صرح المعرفة بمفهوم الحكّ والاحتكاك بين الرصيد العربي والرصيد غير العربي، وهكذا يصير معاصرا لي، وأتعلم منه، وأنتقده، وأبحث في غيره من الكتابات، وأبحث عن الحجج، بمقارنة مندمجة، في برنامج لإعادة تشكيل كونية معرفية جديدة، ليست هي الكونية التي ورثناها من أوروبا، والتي لا تزال مهيمنة، لكن لا تلغي الكونية الغربية بل تُحاجِجُها وتناقشها، في جو من الحرية الإبِسْتيمية، وبناء الدينامية الجديدة، بتصورات للكونية، قد يخرج منها تموقع جديد”.
صمود الفلسطينيين
من الأمثلة التي قدّمها عبد الله حمودي في درسه الافتتاحي “المثال القاطع اليوم، مثال فلسطين: فالحروب شيء قديم، والمكيدة كانت دائما إنكار وجود الفلسطينيين (…) وفي حرب غزة، الشيء المهم في البحث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي هو: لقد تكونت في الأجيال المتعاقبة نظريات سائدة وفرضيات حول الحياة والموت والاجتماع والتعاملات مع بعضنا، وكانت الأرضية السائدة للعلوم الاجتماعية هي أرضية الحداثة، والحداثة المتجددة ما بعد الحداثة. وحرب غزة، الدائرة اليوم، تجدد جميع مفاهيم الحياة البشرية، في قلب التراجيديا التي تعاشُ، من جراء الحرب على الغزاويين والفلسطينيين من قبل الآلة الإسرائيلية”.
وزاد شارحا: “حتى الآن كان هناك شيء يسمى القانون الدولي، ونحن نبحث عن أرضية جديدة تفوق ما كان يسمى قانونا دوليا، وتفنّد صحته وأهليته في معالجة هذه الحرب الجديدة، وحتى قوانين الحرب تغيرت. كل التغير الجذري والجديد يتلخص في الحياة، وكيف نتجه إليها، وننظر للموت”.
وواصل: “الحياة العادية كونية، يستوي فيه الإنسان والحيوان والنبات والأرض. لكن الحرب على غزة بدّلت الموت؛ لأن الموت المفروض على الفلسطينيين اليوم ليس مرورا من البقاء إلى الفناء، بل الإفناء الجماعي، بتقنيات جديدة، والموت نفسه تبدل كمفهوم، لأن الميت لا يدفن، بسبب صعوبات في الدفن، ويتقطع أشلاء، ويُلعَب بها، ويعاد محوه من جديد وهو في القبر؛ فالموت كما كان متعارفا عليه المرور من دار الحياة إلى دار البقاء، حسب المعتقدات، يمر بطقوس وفيها أمل، نجد أن الآلة الإسرائيلية تحاول قتل كل أمل”.
وما معنى القتل؟ القتل الفردي يعني “هذه نهايتك الراديكالية ولا تطمع في شيء آخر، لستَ بكائن حي”، أما “القتل الجماعي ينفي الوجود بآلة الموت؛ فلا نهاية حياة وبداية ذاكرة واستمرار، بل القتل الجماعي نهاية النوع نفسه الذي تروم الماكينة الإسرائيلية القضاء عليه”.
وقارن الأستاذ بجامعة برينستون الأمريكية هذا بـ”الرّقِّ، وكيفية التعامل معه بالموت في أمريكا، وخاصة في الكاريبي حيث كان يُمنَع دفن الموتى السود ويلقون في البحر، لا يبقى لهم أثر، لأنه في الموت يكون أثر الحياة السابقة، وإذا محيتَ الأثر، تلغي الموت، الذي هو من خاصية الإنسانية، فتلغي إنسانية الموت”.
وأردف حمودي قائلا: “الأنثروبولوجيا الجديدة تنبع من هموم الشعب، وهموم مجتمعات تستلهم مواضيعها مما هو سائر، ولا حاجة لأنثروبولوجيا مجرّدة، وهي شيء لا يمكن الإيمان به كمجرد فقط، صوري، بل بتعريفات تعيد تعريف الأشياء وتجدد المعرفة. وهذا شيء في المنهج: إعادة تعريف المواضيع، والمناهج، وارتباطها كما النظريات، بما يشغل هموم البشرية، وهل الموت ليس بأهم همّ للبشرية؟ وإذا حاولت نفيها الراديكالي، فإنك تحاول هدم آثار الناس وتنفي وجودهم”.
بالتالي، ما خلص إليه حمودي هو أنه “في القضية الفلسطينية لن ينجح هذا القتل الجماعي الإسرائيلي ونفي الوجود؛ لأن “صمود الفلسطينيين والحاضنة الشعبية، ودور الأسر، وخاصة النساء، والإنجاب، والصلاة على الموتى في الجنائز تحت القنابل، تعطي للموت الفلسطيني معنى، يفنّد معنى الموت الجديد راديكاليا، الذي تحاول الآلة العصرية الحديثة أن تلقّيهِ الفلسطينيّين”.