في خضم التحولات الدراماتيكية التي شهدتها الحرب السورية، لمع اسم أبو محمد الجولاني كزعيم مثير للجدل، تتراوح سيرته بين خطاب متشدد تحركه أيديولوجيا دينية صارمة ومسار سياسي يهدف إلى تقديم نفسه كلاعب براغماتي يسعى لتغيير صورته أمام الداخل والخارج. يمثل الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام، أحد أبرز الشخصيات التي تحولت من ارتباطها بتنظيم القاعدة إلى محاولة بناء سلطة محلية في شمال غرب سوريا، في ظل حسابات إقليمية ودولية معقدة.
انطلقت مسيرة الجولاني من صلب الحركات الإسلامية المتشددة. ولد أحمد الشرع، الاسم الحقيقي للجولاني، في عام 1982 في حي المزة الراقي بدمشق لعائلة ميسورة. درس الطب قبل أن تجرفه تحولات المنطقة نحو العمل الجهادي. بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، انضم إلى تنظيم القاعدة بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، حيث تدرج في صفوف التنظيم قبل أن يُعتقل في العراق لخمس سنوات.
عند اندلاع الثورة السورية عام 2011، عاد الجولاني إلى بلاده ليؤسس “جبهة النصرة”، التي أصبحت سريعًا فرع تنظيم القاعدة في سوريا. في البداية، حظي بدعم كبير باعتباره يقود فصيلاً قوياً ومتماسكاً ضد النظام السوري. إلا أن الصراع مع تنظيم “الدولة الإسلامية” بقيادة أبي بكر البغدادي أدى إلى انشقاق الجولاني عن القاعدة في 2016 وتأسيس هيئة تحرير الشام، في محاولة واضحة لتخفيف القيود الأيديولوجية والانخراط في المشهد السياسي السوري.
تغيير الصورة
منذ انفصال هيئة تحرير الشام عن القاعدة، عمل الجولاني على تحسين صورته. تخلى تدريجياً عن المظاهر الجهادية التقليدية مثل العمامة، وظهر في زي عسكري أو مدني. بدأ باستخدام اسمه الحقيقي في المناسبات الرسمية، وصرح بأنه يسعى إلى إقامة إدارة مدنية في شمال غرب سوريا. كما أطلق سلسلة من الخطابات الإعلامية الموجهة للداخل السوري والمجتمع الدولي، مفادها أن الهيئة تسعى لحماية المدنيين وضمان الأمن في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
وفي خطوة لافتة، أعلن الجولاني في وقت سابق أنه لا ينوي تنفيذ هجمات ضد الغرب، وهو تصريح استهدف تقليل مخاوف المجتمع الدولي وتصوير هيئة تحرير الشام كلاعب محلي يسعى لإدارة مناطق نفوذه بدلاً من تصدير العنف.
سقوط النظام “وشيك”
في بيان صدر السبت، عاد الجولاني ليتحدث بلهجة تجمع بين الثقة والبراغماتية. قال: “لقد وصلتم إلى عتبة حمص ودمشق، والإطاحة بالنظام المجرم باتت وشيكة، لذا أجدد نصيحتي لكم يا إخواني، بأن تكونوا رحماء ولطيفون مع أهلنا في المدن والقرى التي تدخلونها فاتحين”.
ووجه الجولاني رسالة مباشرة لقوات جيش النظام، قائلاً: “إلى جنود وضباط نظام الأسد، من دخل بيته وأغلق بابه… فهو آمن، ومن أعلن انشقاقه عن النظام المجرم وألقى سلاحه وسلم نفسه فهو آمن”.
تزامنت هذه التصريحات مع إعلان قيادة العمليات العسكرية للمعارضة المسلحة أن تطويق دمشق بات مسألة وقت، محذرةً النظام من “مفاجآت” كبيرة.
طمأنة المدنيين
مع توسع نفوذ هيئة تحرير الشام في الشمال السوري، سعى الجولاني إلى إرسال إشارات طمأنة للمدنيين في المناطق التي تسيطر عليها قواته. خلال جولته في قلعة حلب، أكد أن المسيحيين “لن يتعرضوا للأذى”. كما شدد على أن الهيئة لن تسعى للثأر في محافظة حماة، التي شهدت مجازر مروعة على يد قوات الرئيس السابق حافظ الأسد.
هذه الرسائل ليست موجهة فقط للسوريين، بل أيضًا للمجتمع الدولي الذي لا يزال ينظر إلى هيئة تحرير الشام كتنظيم إرهابي. يرى المراقبون أن هذه التصريحات جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى إظهار الجولاني كرجل دولة قادر على إدارة المناطق الخاضعة لسيطرته بواقعية ومسؤولية.
بين الداخل والخارج
رغم محاولاته المستمرة لتغيير صورته، لا يزال الجولاني يواجه تحديات كبيرة. داخلياً، اتُهمت هيئة تحرير الشام بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، بما في ذلك عمليات اعتقال تعسفي وتعذيب. الأمم المتحدة اعتبرت أن بعض هذه الانتهاكات ترقى إلى جرائم حرب. كما نظمت احتجاجات في إدلب ضد ممارسات الهيئة، مما يشير إلى تزايد الاستياء الشعبي.
على الصعيد الدولي، لا تزال الحكومات الغربية تصنف هيئة تحرير الشام كمجموعة إرهابية. ورغم تلميحات الجولاني إلى الاعتدال، فإن ارتباطه السابق بالقاعدة وأيديولوجيته المتشددة يجعلان من الصعب على المجتمع الدولي القبول به كلاعب سياسي شرعي.
“براغماتية متطرفة”
يرى المحللون أن الجولاني يتبع ما يمكن وصفه بـ”البراغماتية المتطرفة”. يقول توما بييريه، المتخصص في الجماعات الإسلامية: “إنه يحاول تقديم نفسه كزعيم معتدل، لكن هذا لا يعني أنه تخلّى عن أصوله الجهادية”.
من جانبه، يعتبر الباحث آرون لوند أن “ما يفعله الجولاني هو محاولة ذكية للتكيف مع الواقع السياسي، لكنه يظل شخصية متشددة تنتمي إلى أيديولوجيا أصولية”.