“تقهقر” هو الأكثر حدة من نوعه، منذ أكثر من عقدين، ذلك الذي بصم عليه أداء التلاميذ المغاربة في السنة الثانية من السلك الإعدادي في مواد العلوم الفيزيائية والطبيعية، إلى جانب الرياضيات، وفق قراءة خبراء وباحثين في الشأن التربوي للمعطيات التي كشفت عنها نتائج المؤشر العالمي “TIMSS 2023”، بخصوص انخفاض المعدل العام الوطني في العلوم بـ68 نقطة، والمعدل الوطني في الرياضيات بـ10 نقاط، مقارنة بنتائج دورة 2019 من هذا البحث الدولي.
ودفع المهتمون أنفسهم بوجود عوامل متعددة أدت إلى “هذا التراجع”؛ على رأسها “التباطؤ” في تنزيل إصلاح منظومة التربية والتكوين لأكثر من ثلاث سنوات، “ما أقصى تلاميذ المستوى الإعدادي المشاركين في البحث من الاستفادة منه”، فضلاً عن كون رؤية الحكومة له، المضمّنة في خارطة الطريق، “ركزت أساساً على السلك الابتدائي، ما ظهر في مشروع مدارس الريادة”.
ويذكر المتحدثون لجريدة هسبريس الإلكترونية، كذلك، ضمن هذه العوامل، “عدم مواءمة المنهاج الدراسي المعتمد في تدريس المواد سالفة الذكر في السلك الإعدادي بالمغرب لذلك ‘المفترض’ الذي يختبر فيه التلاميذ في بحث ‘تيمس'”، منبهين في هذا الشأن إلى أن “تدريسها كذلك محل إشكال؛ إذ تكاد تغيب عنه التجارب العلمية الرصينة، فضلاً عن كونه يتم بالفرنسية رغم ضعف التلاميذ فيها”.
“عوامل متعددة”
عبد الناصر ناجي، خبير تربوي ورئيس مؤسسة “أماكن” لتحسين جودة التعليم، سجل بدايةً أن “هذا التراجع الحاد في مستوى أداء تلاميذ الإعدادي في الرياضيات والعلوم، وفقاً لنتائج مؤشر ‘تيمس’، لأول مرة يحصل منذ أن شارك المغرب لأول مرة في هذا التقييم سنة 1999″، منبهاً إلى أنه “منذ ذلك الوقت حتى سنة 2019، أي لمدة عشرين سنة، ارتفع المعدل الوطني للعلوم في المغرب بنحو سبعين نقطة؛ لكن وفق ما كشفت عنه النتائج الأخيرة فقدها بالكامل تقريباً خلال أربع سنوات”.
وعزا الناجي، في تصريح لهسبريس، أسباب “هذا التدني غير المسبوق لنتائج تلاميذ الإعدادي المغاربة في هذه المواد العلمية إلى جملة من الأسباب المركبة والمتضافرة”، مورداً: “على رأسها التأخر المسجل في تفعيل الرؤية الإستراتيجية للإصلاح، بحيث لم يبدأ تطبيق خارطة الطريق 2023-2026 إلا خلال هذه السنة؛ ما يعني أن التلامذة المشاركين في هذا البحث الدولي لم يستفيدوا من الإصلاح الجديد لمنظومة التربية والتكوين طيلة أربع سنوات تقريباً، بل ظلوا محسوبين على الإصلاح السابق”.
وأضاف الخبير التربوي ذاته أن “خارطة الطريق ركزت أساساً على الابتدائي، إذ نجد أن تجربة الريادة، التي تعد ركيزة الإصلاح بالنسبة للوزارة، كانت تستفيد منها 626 مدرسة ابتدائية فقط؛ ما يعني أن تلامذة الإعدادي لم يستفيدوا بتاتاً من هذا الإصلاح”، مشيراً في هذا الصدد إلى أن “من شارك من هؤلاء في البحث الدولي اجتازوا اختباراته في ماي من السنة الماضية”.
سبب آخر لفت إليه ناجي يتصل بكون “نجاح التلاميذ من سنة إلى أخرى ومن مستوى إلى آخر بات يحدث بطريقة أوتوماتيكية وبدون استحقاق، خصوصاً في الابتدائي الذي نجد أن جميع التلاميذ الذين يجتازون مستواه الإشهادي ينجحون”، مبرزاً أن “تعثرات التلميذ تبدأ في التراكم سنة بعد سنة إلى أن يجد نفسه بمستوى ضعيف خلال بلوغه السلك الإعدادي”، وزاد: “نتائج المؤشر التي نحن بصددها تحيل بالملموس على أن نسبة مهمة من تلاميذ السنة الثانية إعدادي ليست لديهم مؤهلات هذا المستوى”.
وذكر الخبير التربوي عينه أن “عدم تغيير المنهاج الدراسي للإعدادي، رغم مطالبات عدة للخبراء التربويين بتغييره ليصبح منسجماً مع المنهاج الذي يجتاز فيه التلاميذ المغاربة اختبارات المؤشر، كان سبباً قوياً كذلك في تدني نتائج التلاميذ المغاربة هذه السنة”، مضيفاً عاملاً آخر يتمثل في “تدريس المواد العلمية بالفرنسية رغم المستوى المتدني للتلاميذ المغاربة فيها، الذي يعد امتداداً لضعفهم في هذه اللغة منذ المستوى الابتدائي”.
“إشكالات تربوية”
من جهته أبرز جمال شفيق، خبير تربوي ومفتش تربوي مركزي سابق، أن “المغرب منذ أول مشاركة له في مؤشر ‘تيمس’ كانت نتائج تلامذته في المواد العلمية دائماً متدنية، ولم تصل قط إلى المستوى الذي يتوقعه المهتمون ويأملونه”، مستدركاً بأن “نتائج هذه السنة كشفت تعمق هذا الضعف الحاصل في كفايات التلاميذ المغاربة في المواد العلمية، وهو ما تقف وراءه عوامل تربوية عديدة”.
وذكر شفيق، في تصريح لهسبريس، أن “من أبرز هذه العوامل عدم توفر الشروط والظروف الجيدة لتعلم هذه المواد العلمية والتميز فيها؛ فبالنسبة لتدريس علوم الحياة والأرض أو الفيزياء نجد أن التجارب العلمية ‘بقواعدها’ لم تعد تجرى بغالبية المؤسسات الإعدادية؛ وباتت غالبية دروسها عبارة عن عروض ووثائق مستنسخة، خصوصاً أن الهاجس أصبح هو القيام بتمارين نمطية، وإنجاز الفروض وإدراج نقاطها في مسار، ثم الامتحانات الإشهادية”.
وعزا الخبير التربوي عينه هذا الأمر إلى “ضعف الغلاف الزمني الممنوح لهاتين المادتين على المستوى الإعدادي، نظراً لقلة الوقت، إذ نجد أنهما تدرسان لساعتين فقط في الأسبوع”، مشيراً أيضاً إلى “قلة المختبرات (القاعات المخصصة لهذه التجارب) وضعف تجهيزها بالمحاليل والمواد اللازمة، فضلاً عن الاكتظاظ الناتج عن غياب التفويج، الذي لا يسمح بتمكن التلاميذ من المعارف الملقنة؛ وهو الشأن ذاته بالنسبة لمادة الرياضيات”.
وأيد شفيق بدوره أن “عدم تضمن منهاج الإعدادي المعتمد في المغرب نسبة كبيرة من المضامين التي يختبر فيها التلاميذ المغاربة في ‘تيمس’ يساهم بدوره في تدني نتائجهم على مستوى هذا البحث”، مضيفاً أن “المنهاج المغربي غير مواكب بشكل كلي للمنهاج الافتراضي المستخدم في المؤشر”، وزاد: “هناك مجهود مبذول في هذا الشأن من طرف الوزارة، في إطار مشروع Bridge؛ لكن مازالت تجب مضاعفة الجهود حتى تصبح المضامين والكفايات في هذه المواد قريبة من المعايير الدولية، ويصبح دماغ التلميذ المغربي قادراً على تحليل جميع الوضعيات العلمية بسرعة كبيرة”.