تُعدّ قضية الانتهاكات الحقوقية التي تشهدها مخيمات تندوف، الواقعة على التراب الجزائري، والتي تديرها جبهة البوليساريو بتفويض من “قصر المرادية”، واحدة من أكثر القضايا الحقوقية والإنسانية المثيرة للجدل على مستوى المنطقة المغاربية والقارة الإفريقية ككل، إذ يعيش سكان هذه المخيمات في ظروف قاسية لا تحترم أبسط شروط الكرامة الإنسانية، وترتكب في حقهم ومنذ عقود أبشع أنواع الانتهاكات المثبتة بموجب عدد من التقارير الدولية وشهادات الهاربين من “جحيم تندوف”، التي تورطت فيها قيادات من الجبهة الانفصالية وسط مباركة وصمت مطبق من السلطات الجزائرية.
في هذا السياق نظم حزب جبهة القوى الديمقراطية، بمعية الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان والدفاع عن الحكم الذاتي، أمس الإثنين بالرباط، مائدة مستديرة حول موضوع “انتهاكات حقوق الإنسان في مخيمات تندوف ومسؤولية النظام الجزائري”، عرفت مشاركة عدد من النشطاء الحقوقيين من المغرب والجزائر، الذين سلطوا الضوء على معاناة السكان المحتجزين في المخيمات وعلى مسؤولية الدولة الجزائرية أخلاقيا وقانونيا عن هذه المعاناة، مشددين على ضرورة تكثيف الترافع الحقوقي وتفعيل الآليات الدولية لتوثيق هذه الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها.
تحمل المسؤولية
في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية قال المصطفى بنعلي، الأمين العام لحزب جبهة القوى الديمقراطية، إن “هذه المائدة المستديرة وقفت على فظاعة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مخيمات تندوف، وهو ما ثبت من خلال مجموعة من الشهادات والتدخلات التي أثارت مسؤولية الجزائر الكاملة عنها”.
وأضاف الأمين العام لحزب جبهة القوى الديمقراطية أن “هذا الحدث خرج بتوصيات مهمة أهمها ضرورة العمل على خلق آلية، سواء تعلق الأمر بلجنة دولية أو مرصد دولي، من أجل توثيق هذه الانتهاكات والترافع من أجل تحمل الدولة الجزائرية مسؤوليتها في هذا الجانب، وكذلك إنهاء المعاناة الإنسانية المستمرة في المخيمات، عبر إشراك المنظمات الدولية ودفع المنتظم الدولي إلى تحمل مسؤوليته هو الآخر تجاه هذه المعاناة المستمرة لعقود من الزمن، في ترابط تام مع مسؤولية ميليشيا البوليساريو والدولة الحاضنة لها”.
وتفاعلا مع سؤال للجريدة حول أهمية انخراط فعاليات المجتمع المدني المغربي في فضح هذه الانتهاكات الحقوقية التي تطال السكان المحتجزين في المخيمات أوضح المسؤول الحزبي ذاته أن “المجتمع المدني أصبح يلعب دورا متميزا في كشف هذه الخروقات الحقوقية والترافع من أجل إنهائها”، مسجلا أن “الوعي بأهمية هذا الدور هو ما دفع جلالة الملك محمد السادس إلى الدعوة إلى استثمار إخلاص المغاربة، بمن فيهم أبناء الصحراء، للدفاع عن القضية الوطنية المرتبطة بالأرض وبالشعب أيضا”.
انتهاكات موثقة
أول المتحدثين خلال هذه المائدة المستديرة التي عرفت مشاركة عدد من النشطاء الحقوقيين هو شكيب الخياري، رئيس جمعية الريف لحقوق الإنسان، الذي ركز في مداخلته على الانتهاكات والخروقات الحقوقية التي شهدتها مخيمات تندوف على ضوء تقارير منظمة العفو الدولية منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، مشيرا إلى أن “جل تقارير المنظمة التي تطرقت فيها لوضعية حقوق الإنسان في المخيمات تموضع خروقات البوليساريو الممارسة في تندوف داخل الجزء المتعلق بالتقارير الخاصة بالمغرب وليس بالجزائر، مع أن تندوف هي داخل التراب الجزائري”.
وأوضح الناشط الحقوقي ذاته أن “هناك حالة واحدة، وهي في تقرير سنة 1993، حيث تم إدراج هذه الخروقات في شق التقارير المتعلقة بالجزائر”، لافتا إلى أن “منظمة العفو الدولية رصدت في تقاريرها عددا من الخروقات، أولاها تلك المتعلقة باعتقال واختفاء 100 عضو من جبهة البوليساريو بين عامي 1975 و1979 بسبب انتقادهم السياسات الداخلية للجبهة، ولم يعرف مصيرهم إلى يومنا هذا؛ إضافة إلى خروقات تتعلق بالتضييق على حرية الرأي والتعبير وحرية التنقل داخل المخيمات، قس على ذلك سوء المعاملة والاحتجاز القسري”.
وتابع الخياري بأن “تقارير هذه المنظمة رصدت أيضا غياب إجراءات محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، كما رصدت استمرار احتجاز أسرى الحرب بعد التوقيع على وقف إطلاق النار”، موردا على صعيد آخر أن “التقارير أثارت مسألة جد مهمة، وهي الإفلات من العقاب، إذ تؤكد أن المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان في المعسكرات في تندوف يفلتون من المحاسبة والعقاب، كما تشير إلى أن البوليساريو لم تسلم الجناة للسلطات الجزائرية لتقديمهم أمام العدالة”.
في السياق ذاته شدد المتحدث على أن “ما تسمى الجمهورية الصحراوية وإن كان لديها دستور ينص على أن لديها قضاء ومحاكم على درجات إلا أن منظمة العفو الدولية لم تعترف للجمهورية الوهمية بنظامها القضائي، ومافتئت تطالب وإلى يومنا هذا بتقديم منتهكي حقوق الإنسان من جبهة البوليساريو للقضاء الجزائري”، مؤكدا أن “هذا المطلب هو اعتراف بالمسؤولية الحقوقية والقانونية للجزائر عن جميع الممارسات والانتهاكات التي تقع في مخيمات تندوف”.
وجود غير قانوني
من جهته أورد أنور مالك، ناشط سياسي وخبير حقوقي جزائري معارض، في مداخلته: “موضوع الانتهاكات التي تقع في مخيمات تندوف تهمنا كجزائريين، لأن هذه المخيمات موجودة في الجزائر، وساكنتها من المفروض أنها تحت الولاية القانونية للنظام الحاكم، رغم أن الأخير يجب تجريده حتى من الولاية القانونية على الجزائريين أنفسهم”، مضيفا: “وجود أشخاص خارج أرضهم يرتبط بالضرورة إما بإقامة عادية أو حالة لجوء سياسي أو إنساني، وعندما ننظر إلى سكان المخيمات اليوم فإن تواجدهم هناك أصبح غير قانوني، لأنهم ليسوا لاجئين بحكم أنهم لا يملكون أي وثائق تثبت هذه الوضعية”.
وبين المتحدث ذاته أن “الأسباب التي قد تُفسر استمرار تواجد هؤلاء الأشخاص المجهول عددهم غير متوفرة بتاتا، لأن وصفهم باللاجئين يفترض توفرهم على ما يثبت ذلك، ثم إنهم ليسوا بمحتجزين، بل هم رهائن يتم توظيفهم من أجل المساومة بهم لتحقيق مطالب ومصالح معينة للنظام الجزائري”، مشيرا إلى أن “هؤلاء الرهائن يوجدون في أرض تحت السيادة الجزائرية، إذ لا يمكن أن تكون هناك دولة داخل دولة، كما لا يمكن قانونيا أن تفوض دولة ما لجماعة ما ولايتها القانونية على فضاء جغرافي من أجل أسر الناس وسجنهم ومحاكمتهم”.
وسجل الناشط السياسي والحقوقي الجزائري أن “مسؤولية النظام الجزائري عما تقوم به البوليساريو في حق ساكنة المخيمات هي مسؤولية شاملة”، معتبرا أن “الجزائريين أنفسهم لا يمكن أن يدخلوا إلى القطعة الجغرافية التي شيدت عليها المخيمات، ومنحها النظام بطريقة غير قانونية، لأنه لا توجد أي مؤسسة في الجزائر لديها الحق في منح متر واحد من التراب الجزائري إلا عبر استفتاء شعبي يقبل ذلك، وهذا غير موجود، ولذلك فإن مسؤولية النظام عما يقع هناك هي مسؤولية قائمة ومتكاملة الأركان”.
تنصل جزائري
وفي مداخلة له بهذه المناسبة قال وليد كبير، صحافي جزائري معارض ومهتم بالشأن الحقوقي، إن “مخيمات تندوف هي واحدة من أكثر المناطق في العالم التي تشهد انتهاكات لحقوق الإنسان، وفوق التراب الوطني الجزائري للأسف الشديد”، مضيفا أنه “من الغريب أن يدفع ممثلو النظام الجزائري في مجلس الأمن خلال مناقشة ملف الصحراء بضرورة توسيع صلاحيات بعثة المينورسو في الصحراء المغربية، في حين أن حقوق الإنسان تنتهك بشكل يومي في المخيمات التي تقع تحت ولاية الجزائر القضائية والقانونية”.
وتابع المتحدث ذاته: “الدستور الجزائري ينص في مادته الـ39 على أن الدولة تضمن عدم انتهاك حقوق الإنسان، وعلى أنه يُحظر اللجوء إلى العنف ضد الأشخاص والمس بكرامتهم. كما يعاقب القانون الجزائري على المعاملات اللاإنسانية، غير أن كل هذه المعاملات والجرائم ترتكب فوق تراب ولاية تندوف من طرف البوليساريو”، معتبرا أن “أول جريمة ارتكبت في حق سكان المخيمات هي اختطافهم من المغرب والزج بهم في هذه المنطقة بمساعدة من الجيش الجزائري”.
وسجل كبير أن “المخيمات تضم اليوم أشخاصا ليس لهم أي ارتباط بالنزاع حول الصحراء، إذ حدد عدد سكانها بموجب الإحصاء الإسباني لسنة 1974، لكنهم أصبحوا أقلية داخل هذه المخيمات مقابل توطين أشخاص من جنسيات أخرى لا علاقة لهم من قريب ولا من بعيد بالصحراء، وهذا ما يزيد من تعقيد هذا النزاع”، مشيرا إلى أن “النظام الجزائري يتملص من المسؤولية بعدم السماح بإجراء إحصاء لسكان المخيمات خوفا من كشف هذه الحقيقة، وذلك رغم تنصيص كل قرارات مجلس الأمن الأخيرة على ضرورة الذهاب في اتجاه هذا الإحصاء”.
وخلص الصحافي الجزائري المعارض إلى أن “الناس الذين يعيشون اليوم في المخيمات يُستغلون سياسيويا ويتم حرمانهم من المساعدات الإنسانية التي تُوجه للتسويق والبيع في أسواق بعض المدن الجزائرية الأخرى، بهدف الإبقاء على معاناتهم، إضافة إلى غياب حرية التعبير داخل المخيمات، وهذا طبيعي جدا لأن البوليساريو التي تديرها يدعمها النظام العسكري الشمولي الذي يصادر إدارة الجزائريين ويقمعهم منذ عقود، كما يصادر حقوقهم المكفولة بموجب الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الجزائر”.
شهادات وممارسات
في سياق مماثل سلط زين العابدين الوالي، رئيس المنتدى الإفريقي للأبحاث والدراسات في حقوق الإنسان، الضوء على الانتهاكات الحقوقية الجسيمة والواقع المرير الذي يعيشه السكان في مخيمات تندوف، على ضوء شهادات بعض الفارين من “جحيم تندوف” الذين فضحوا ممارسات التعذيب والإخفاء القسري والاعتقال التعسفي التي تمارسها قيادة جبهة البوليساريو ضد المعارضين والمنتقدين لسياساتها، ومن أبرزهم مربيه أحمد محمود وفاضل بريكة، اللذين عُذبا على يد عناصر هذا التنظيم الانفصالي في السجون والمعتقلات السرية، على رأسها سجن الرشيد الرهيب.
وأشار الوالي في مداخلته خلال هذه المائدة المستديرة إلى قمع قيادة الجبهة الانفصالية الحريات داخل المخيمات والتضييق على المدونين الذين يعبرون عن آرائهم المعارضة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تفشي العنصرية والعبودية داخل هذه المخيمات، مشددا على مسؤولية النظام في الجزائر عن كل ما يقع من خروقات حقوقية داخل المخيمات وحمايتها وتسترها على المتورطين فيها، وعلى ضرورة تكاثف جهود كل الهيئات الحقوقية لفضح وتوثيق ما يجري هناك من انتهاكات لحقوق الإنسان، ودفع المجتمع الدولي إلى محاسبة المتورطين فيها.
إنهاء معاناة
من جهته قال السعودي حسن بن ثابت، المراقب الأول لدائرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لدى المحكمة الدولية لتسوية المنازعات، في مداخلة له، إن “معاناة سكان المخيمات في تندوف ليست فقط مسألة إنسانية، بل هي وصمة عار في جبين المجتمع الدولي الذي يجب أن يتحمل مسؤوليته في دعم حل دائم وشامل ومستدام للنزاع في الصحراء”.
وحتى يتحقق ذلك، يؤكد المتحدث ذاته أن “المنتظم الدولي يجب عليه أن يدعم مقترح الحكم الذاتي الذي تقدمت به المملكة المغربية خدمة للإنسان والمجال، وكذا الاستقرار في المنطقة”، مشددا على أن “مخطط الحكم الذاتي ليس فقط مجرد فرصة للتوصل لتسوية سياسية لهذا النزاع، بل هو أيضا فرصة لإنهاء معاناة آلاف الأسر في المخيمات، وفتح صفحة جديدة من التنمية وتحقيق الكرامة الإنسانية، وبالتالي يجب على الحكومات أن تعمل من أجل تحقيق هذا الهدف السامي وإيقاف هذه المعاناة الإنسانية التي عمرت طويلا”.
0 تعليق