تفاعلا مع التصريحات الأخيرة لأحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، حول العلمانية في المغرب، قال الباحث المغربي الدكتور إدريس الكنبوري إن “التصريحات حادت عن طريقها بفعل التوظيفات الإيديولوجية والسياسية، إلى أن جاءت رسالة الرد على بنكيران لكي تعزز تلك التوظيفات لا لكي تنقضها”.
وأشار الكنبوري، في مقال له بعنوان “مناقشة هادئة لوزير الأوقاف حول علمانية المغرب”، إلى أن “الوزير يعرف جيدا أكثر من غيره أن الدين في المغرب بيد مؤسسة إمارة المؤمنين”، مضيفا أن “الجدل الذي فتحته تصريحات الوزير يعني أنه في المغرب لم يتم بعد الحسم في هوية الدولة بالشكل الذي يغلق النقاش نهائيا ويجعل هناك حالة من التسليم بالهوية الدينية والسياسية للدولة المغربية”.
نص المقال:
أخذت تصريحات وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، حول العلمانية في المغرب أصداء عالية منذ أن أدلى بها داخل البرلمان قبل أسبوع، ولم تتوقف ردود الفعل حتى اليوم، بل إن أصداءها انتقلت إلى الخارج، أما في الداخل فقد بدا للبعض أن الوزير قدم لهم هدية ثمينة على غير انتظار، إذ بينما كان هؤلاء ينادون بالعلمانية سرا وعلانية من خارج مؤسسات الدولة، جاء من قدم لهم رِفدا من داخل هذه المؤسسات، بل من مؤسسة حكومية تعد المشرف الرئيسي على الحقل الديني، مما جعلهم يعتقدون بأن التوفيق اختصر عليهم الطريق.
وما زاد الطين بلة رد السيد الوزير على تصريحات الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، في رسالة أوضحت ما كان محل غموض، إذ أكد فيها التوفيق المرجعية العلمانية للمؤسسات السياسية والترسانة القانونية في المغرب، وأشار إلى أن عددا من هذه القوانين “مقتبس من نظام غربي علماني”، كما أرجع فكرة المواطنة إلى الفلسفة العلمانية الأوروبية، بل زاد قليلا ودعا إلى الاعتراف بالحريات الفردية “كما ينص عليها الدستور وتحميها قواعد النظام العام”، في وقت ما زالت هذه الحريات محل نقاش.
ونحن نعتقد أن ما ذكره السيد الوزير في رسالته تلك لم يكن ناتجا عن قناعة، بقدر ما كان حافزه رد الصاع صاعين لبنكيران وإظهار حزبه متصالحا مع العلمانية، والقول بأن إسلامية الحزب مجرد ادعاء، وهكذا سدد السيد الوزير ضربة إلى عمق هوية الدولة فيما هو يظن أنه سددها إلى بنكيران.
لقد كشف السيد الوزير، في تصريحاته أمام البرلمان يوم 25 نوفمبر الماضي، أنه أعلن لوزير الداخلية الفرنسي أن المغاربة علمانيون، رغم أن المغرب لا يتبنى قانون 1905 الشهير حول فصل الدين عن الدولة في فرنسا، وكان يعني بذلك أن المغرب يقر بحرية الاعتقاد، إلا أن تلك التصريحات حادت عن طريقها بفعل التوظيفات الإيديولوجية والسياسية، إلى أن جاءت رسالة الرد على بنكيران لكي تعزز تلك التوظيفات لا لكي تنقضها.
لا نعتقد بأن السيد الوزير كان مضطرا إلى ذكر عبارة العلمانية التي شوشت على الغرض منها، كما لا نعتقد أنه كان في حاجة إلى الإشارة إلى قانون 1905 حتى أكد لوزير الداخلية الفرنسي أن المغرب يعترف بحرية التدين، لأن حرية التدين في المغرب موجودة قبل الثورة الفرنسية وقبل قانون 1905، بل كانت موجودة في المغرب عندما كانت فرنسا تفتح محاكم التفتيش لمحاربة حرية التدين والتعبير، وبالتالي لا يمكن لفرنسا أن تكون نموذجا للمغرب في هذه المسألة، زد على ذلك أن علمانية فرنسا هي أسوأ العلمانيات على الإطلاق في القارة الأوروبية، ولا يستطيع حتى المواطن البريطاني أن يعتبرها نموذجا له فما بالنا بمواطن مغربي، وقد استدل السيد الوزير بالآية “لا إكراه في الدين”، وهي آية نزلت حتى قبل أن تظهر دولة تسمى فرنسا، ولا ندري لم تقديم قانون صادر عام 1905 على آية نزلت قبل أربعة عشر قرنا من ذلك التاريخ؟
بيد أن رسالة الرد على بنكيران هي التي أفاضت الكأس، فهي مليئة بالتناقضات، علاوة على تسييس قضية العلمانية فيها لأن موضوعها الرد على الأمين العام لـ”حزب إسلامي”، مما جعلها مجرد مكايدة. فقد أرجع السيد الوزير كل القوانين والمؤسسات في المغرب إلى الروح العلمانية الأوروبية، وأظهرها كما لو كانت مجرد اقتباس لا تحديث لبنيات تقليدية ـ بمعنى تاريخية ـ وأفرغ تاريخ المغرب بالتالي من كل رصيد.
وفي الوقت الذي أرجع فيه السيد الوزير كل شيء إلى العلمانية أبقى على الاستثناء الوحيد وهو الديمقراطية، أي سلطة الأغلبية، لكنه هنا وقع في تناقض حاد، حيث قال: “لأن إمارة المؤمنين تحمي كليات الدين وقطعيّاته، ولولا ذلك لعشنا العلمانية التي لا مرجع فيها سوى الأغلبية”، فوضع إمارة المؤمنين في مواجهة سلطة الأغلبية، مع أن إمارة المؤمنين تحمي عقيدة الأغلبية وتمثلها، فهي هي سلطة الأغلبية لا نقيضها.
ثم زاد السيد الوزير قائلا وهو يخاطب بنكيران: “وأنت كنت مضطرا إلى تحالف حكومي، ولا يفترض أن يكون حلفاؤك فيه على نفس الاقتناع أو الفهم للدين، وهذه خلطة أخرى “طيبة” متأصلة في مطبخ العلمانية”، وفي هذه الإشارة ما فيها من الخروج عن النص، لأن السيد الوزير يعرف جيدا أكثر من غيره أن الدين في المغرب بيد مؤسسة إمارة المؤمنين، فكيف يجوز القول بأن التحالفات الحكومية تتم على أرضية التقارب أو التباعد في فهم الدين، والحال أن التحالفات الحكومية في المغرب تتم على قاعدة السياسة لا الدين؟
غير أن إرجاع الترسانة القانونية والبنيات المؤسسية في المغرب إلى مجرد اقتباس من العلمانية يعد تراجعا ملحوظا عن فتوى المصالح المرسلة الشهيرة التي أصدرها المجلس العلمي الأعلى عام 2005 استجابة لدعوة أمير المؤمنين في خطابه يوم ثامن يوليوز من العام نفسه، عندما قال: “وفي هذا السياق، قررنا أن تكون فاتحة أعمال المجلس العلمي الأعلى تكليفه، طبقا لما يراه من رأي فقهي متنور، بتوعية الناس بأصول المذهب المالكي، ولا سيما في تميزه بالعمل بقاعدة المصالح المرسلة، التي اعتمدتها المملكة المغربية، على الدوام، لمواكبة المتغيرات في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة، من خلال الاجتهادات المتنورة لأسلافنا الميامين ولعلمائنا المتقدمين. وهو الأصل الذي تقوم عليه سائر الأحكام الشرعية والقانونية المنسجمة والمتكاملة، التي تسنها الدولة بقيادتنا، كملك وأمير للمؤمنين، في تجاوب مع مستجدات العصر، والتزام بمراعاة المصالح، ودرء المفاسد، وصيانة الحقوق، وأداء الواجبات”، وقد بينت هذه الفقرة من الخطاب الملكي أن حزمة القوانين التشريعية في المغرب ترجع بأصولها إلى السياسة الشرعية لا إلى اقتباس من الخارج. وفي الفتوى المذكورة التي أصدرها المجلس بناء على التعليمات الملكية ورد القول بتلازم الديني والسياسي في المغرب، ووردت الإشارة إلى “الابتكار والتجديد في ممارسة السياسة الشرعية المحققة لمصالح المجموع، من خلال سن قوانين تكفل ضبط حركة المجتمع وتحقق مصلحة الإنسان المغربي المتشبث بدينه الطامح إلى ولوج الساحة العالمية، متمكنا من كل الشروط والمواصفات التي تؤهله للمشاركة في صنع المستقبل السعيد المشترك للإنسانية”.
وفي ضوء هذه الفتوى سدت الدولة الطريق أمام أي نزعة علمانية في المغرب، وجعلت لكل تشريع أصولا يلتزم بها في إطار مقاصد الشريعة، أو ما يسمى في القانون الوضعي روح القانون، بمعنى أن أي قانون لا يخضع للتكييف مع مقاصد الشريعة يعد خارجا عن المصالح المرسلة.
إن الجدل الذي فتحته تصريحات وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية يعني أننا في المغرب لم نحسم بعد في هوية الدولة بالشكل الذي يغلق النقاش نهائيا ويجعل هناك حالة من التسليم بالهوية الدينية والسياسية للدولة المغربية، فخروج بعض الأصوات التي حاولت الركوب على تلك التصريحات ومغالطة الرأي العام يدل بوضوح على غياب نظرية علمية واضحة حول مؤسسة إمارة المؤمنين، وقد التقط الشارع المغربي تلك الردود وتفاعل معها بشكل قوي، مما يشير إلى الإجماع العام حول إمارة المؤمنين التي تعد السقف الذي يحمي الدولة والمجتمع، لكن التصور العام حول تلك المؤسسة ما زال يشكو من الفراغ.
غير أن القضية تصبح أكبر عندما نضع في اعتبارنا مغاربة الخارج، خاصة في بلدان أوروبا العلمانية، ذلك أن القول بأن المغرب علماني ــ بالشكل الذي تم فيه تلقيه ــ من شأنه أن يعطي الانطباع للجيل الثاني والثالث والرابع من مغاربة أوروبا بأن المغرب ليس لديه ما يضيفه إلى واقعهم إذا كان علمانيا، لأنهم يعيشون في مجتمعات علمانية أصلا، وبالتالي فإن الحديث عن “نموذج مغربي” يصبح بدون جدوى طالما أنه يلتقي مع النموذج العلماني الفرنسي أو الأوروبي، وسوف يدفع هذا الانطباع أجيال الشباب المهاجر إلى الالتزام بالأصل بدل الصورة.
إننا نحتاج إلى إيجاد نظرية في مؤسسة إمارة المؤمنين، نظرية قابلة للتعقيل في إطار اجتهاد معاصر يوظف ما بين السياسة الشرعية والفقه القانوني الحديث، ويحولها إلى نموذج معاصر لحل معضلة العلاقة بين الدين والدولة التي تتخبط فيها المجتمعات العربية والإسلامية، ففي الوقت الذي نجد فيه تضخما في الخطابات حول الدولة في هذه المجتمعات، نجد في المقابل فقرا في خطابات الدولة إزاء المجتمع، بمعنى أن هناك تنظيرات من داخل المجتمع حول الدولة، لكن لا توجد تنظيرات من داخل الدولة حول المجتمع، وفي قلبها المسألة الدينية.