قال المحلل الجيو-سياسي الشرقاوي الروداني إن نقاش التصديق على اتفاق روما للمحكمة الجنائية الدولية في المغرب يتطلب معالجة شاملة تأخذ في اعتبارها الأبعاد الاستراتيجية والسياسية والحقوقية، مضيفا أن التصديق على هذا الاتفاق قد يفتح الباب لتدخلات خارجية في قضايا داخلية، مثل قضية الصحراء المغربية، قد تستغلها أطراف معادية للمغرب لإثارة القضايا المتعلقة بالوحدة الترابية أو ملاحقة مسؤولين مغاربة بناءً على ادعاءات قد تكون غير حقيقية.
وأورد الأكاديمي ذاته، ضمن مقال توصلت به هسبريس ردا على تصريح عبد الرحيم الجامعي، الرئيس السابق لجمعية هيئات المحامين، بشأن مصير قرار المحكمة الجنائية الدولية المتمثل في إصدار مذكرتي اعتقال في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزيره السابق في الدفاع يواف غالانت، أن عدم التصديق على اتفاق روما يعكس التزام المغرب بالحفاظ على استقلالية مؤسساته القضائية والحد من التدخلات الخارجية، مشددا على أنه بدلاً من التفريط في جزء من السيادة القضائية، يمكن للمغرب تعزيز آليات العدالة الوطنية من خلال تحسين استقلالية القضاء وضمان الشفافية.
وأبرز الشرقاوي أن هذا الموقف يتماشى مع رؤية المغرب في الحفاظ على سيادته الاستراتيجية والدفاع عن مصالحه الحيوية في إطار العلاقات الدولية المتوازنة
وهذا نص المقال
لماذا لا ينبغي على المغرب التصديق على اتفاق روما للمحكمة الجنائية الدولية (CPI)؟
استوقف نقاش حول ما إذا كان ينبغي على المغرب التصديق على اتفاق روما للمحكمة الجنائية الدولية مجموعة من المهتمين. هذا النقاش حول ضرورة تصديق المغرب من عدمه على نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية هو نقاش صحي ومهم. غير أن معالجة هذا الموضوع يجب أن تتم من منظور شامل، يأخذ في الاعتبار الأبعاد الاستراتيجية، السياسية، والجيو-سياسية لضمان توافق أي قرار يتم اتخاذه مع المصلحة الوطنية العليا.
على المستوى الاستراتيجي، في عالم تتداخل فيه المصالح حتى أصبح أشبه برقعة شطرنج تُحرَّك فيها مجموعة من الأدوات وحتى الآليات لزعزعة السياسات الداخلية والخارجية للدول، من المهم التعمق في مجموعة من المحددات لاستجلاء الجوانب المتعلقة بهذا التصديق وآثاره المحتملة على الاستقلالية القضائية والسيادة الوطنية. لا بد من الإقرار بأن السيادة القانونية للدولة تُعد أحد الأعمدة الأساسية لاستقلالية قرارها.
على المستوى العملياتي، من خلال التصديق على اتفاق روما، سيتنازل المغرب عن جزء من سيادته القضائية لصالح هيئة دولية، هي المحكمة الجنائية الدولية، التي قد تتدخل في القضايا الداخلية أو الإقليمية دون موافقة مباشرة من السلطات المغربية. هذه الوضعية قد تطرح تحديات، لا سيما فيما يتعلق بقضية الصحراء المغربية، حيث تُعتبر السيادة الوطنية قضية استراتيجية وحساسة للغاية. في هذا الصدد، يكمن الخطر في احتمال استغلال المحكمة الجنائية الدولية من قبل أطراف معادية للمغرب ومصالحه الاستراتيجية لطرح قضايا تتعلق بإدارة المغرب لأقاليمه الجنوبية أو لملاحقة مسؤولين مغاربة بناءً على ادعاءات غير حقيقية أو مبالغ فيها.
في الاتجاه نفسه، يفرض نظام روما التزامًا على الدول الأطراف بتسليم أي متهم تطلبه المحكمة الجنائية الدولية، حتى لو كان هذا يتعارض مع القوانين الوطنية أو سياسات الدولة. مثل هذه الالتزامات قد تتناقض مع مبدأ حماية المواطنين وحق الدولة المغربية في إدارة شؤونها القضائية داخليًا.
على الرغم من تقديم المحكمة الجنائية الدولية نفسها كهيئة محايدة، فقد تعرضت لانتقادات واسعة بسبب تركيزها الكبير على الدول الأفريقية، حيث شملت غالبية تحقيقاتها وملاحقاتها مسؤولين أفارقة، مما يعزز الانطباع بوجود تحيز منهجي وعدالة انتقائية. وبالتالي، كموقع قوة إقليمية وقوة قارية صاعدة، قد يتعرض المغرب لمثل هذه الاتهامات التي تحركها أجندات سياسية، خاصة في سياق التنافس الجيو-سياسي الحاد في منطقة المغرب العربي والقارة الأفريقية.
منذ مدة طويلة، اتبع المغرب سياسة خارجية قائمة على الاستقلالية الاستراتيجية والصمود أمام مجموعة من المؤامرات التي استهدفت مصالحه. هذه السياسة الوطنية تتطلب الحفاظ على قدرة اتخاذ القرارات بشكل مستقل، بما في ذلك في المجال القضائي، دون التعرض لتدخلات خارجية، وهذا هو صلب مفهوم السيادة. وبالتالي، فإن التصديق على اتفاق روما سيقيد هذه الاستقلالية بوضع جزء من القرارات القضائية تحت إشراف جهة أجنبية، مما قد يحد من هامش المناورة الاستراتيجي للبلاد، خاصة في مكافحة الإرهاب وإدارة النزاعات الإقليمية وكذلك مواجهة خصوم الوحدة الترابية.
لهؤلاء الذين يدعون المغرب إلى التصديق على هذه الاتفاقية، دعني أقول: بدلاً من تفويض جزء من سيادتنا القضائية لمؤسسة خارجية، يمكن للمغرب مواصلة تعزيز آليات العدالة الوطنية، من خلال تحسين الشفافية، واستقلالية القضاة، وضمان الوصول العادل للعدالة. هذه الخطوة لن تعزز فقط ثقة المواطنين في الدولة، بل ستظهر على الساحة الدولية قدرة المغرب على ضمان مستوى عالٍ من العدالة دون الحاجة إلى تدخل خارجي. فقد قطع المغرب شوطًا كبيرًا في هذا المجال، وما ينبغي الآن هو تكريس المكتسبات وتعزيز الثقة في المؤسسات القضائية. كما يمكن للمغرب، في إطار تعزيز مكانته الدولية، دعم العدالة الدولية ومكافحة الإفلات من العقاب بطرق أخرى، مثل التعاون مع منظمات دولية وإقليمية، ودعم إصلاح المحكمة الجنائية الدولية لضمان شفافيتها وعدم تسييسها. كما يمكن مواصلة التركيز على تقوية النظام القضائي الوطني ليكون قادرًا على التعامل مع القضايا الجنائية الدولية، وبالتالي تجنب الحاجة إلى نقل هذه القضايا إلى محكمة خارجية.
فالمغرب دولة ذات سيادة تسعى لتعزيز استقلالية مؤسساتها الوطنية، والتصديق على نظام روما يعني نقل بعض الصلاحيات القضائية الحساسة إلى هيئة دولية قد تتأثر بتوازنات القوى العالمية، وهو ما يشكل تهديدًا للسيادة الوطنية.
في قراءة لقوانين المحكمة الجنائية الدولية، يتضح أنها تعتمد على مبدأ التكامل (Complementarity)، الذي يمنح الأولوية للنظم القضائية الوطنية في معالجة القضايا، بشرط أن تكون هذه النظم قادرة وراغبة في تحقيق العدالة. ومع ذلك، يثير هذا المبدأ جدلاً بسبب التناقضات التي يحملها، وأبرزها سلطة المحكمة في تقييم مدى فعالية القضاء الوطني. هذا التقييم الخارجي يمنح المحكمة نفوذًا قد يهدد استقلالية القضاء الوطني، خاصة إذا تم استخدام هذه السلطة بطرق مسيسة لتحقيق أهداف سياسية معينة.
على المستوى الجيو-سياسي، تُهيمن الواقعية ولغة المصالح على العلاقات الدولية الراهنة. التصديق على اتفاق روما قد يؤدي إلى توترات دبلوماسية مع بعض الشركاء الاستراتيجيين، مثل الولايات المتحدة ودول أخرى تُعتبر حلفاء أساسيين للمغرب، والتي لم تصدق على الاتفاق حفاظًا على سيادتها القانونية. انسجام الموقف المغربي مع هذا التوجه يُعزز اتساقه الدبلوماسي ويحمي علاقاته الاستراتيجية من أي تداعيات قد تؤثر على سياساته الخارجية المدروسة بعناية.
في السياق نفسه، تُواجه منطقة الساحل وشمال إفريقيا صراعات معقدة، ويلعب المغرب دورًا محوريًا في استقرارها عبر آلياته الأمنية والقضائية الوطنية. السماح لجهة خارجية بالتدخل قد يُضعف هذه الجهود ويفتح الباب أمام تدخلات مضرة بالمصالح الإقليمية للمغرب.
هناك تناقضات جوهرية في قوانين المحكمة الجنائية الدولية، خصوصًا ما يتعلق بمبدأ التكامل، والحصانة السيادية، وتسليم المتهمين. هذه القوانين تمنح المحكمة سلطات قد تتجاوز الحدود المقبولة للتعاون الدولي، ما يجعلها عرضة للتسييس وسوء الاستخدام. من هذا المنطلق، فإن موقف المغرب الرافض للتصديق على اتفاق روما يُعبر عن حرصه على حماية سيادته القضائية وضمان أن تظل العدالة الوطنية أداة لخدمة مصالح الدولة والمجتمع، بعيدًا عن أي تدخل خارجي قد يُقوض هذه الأسس.
بالتالي، فإن عدم تصديق المغرب على اتفاق روما يعكس نهجًا استراتيجيًا يوازن بين الحفاظ على السيادة القانونية الكاملة وحماية وحدة أراضيه من مخاطر التدخل أو تسييس العدالة الدولية. عبر تعزيز النظام القضائي الوطني والتعاون الدولي المسؤول، يمكن للمغرب الاستمرار في دعم قيم العدالة واحترام حقوق الإنسان دون المساس باستقلاله الاستراتيجي أو الانخراط في التزامات قد تكون ذات تكلفة سياسية أو سيادية. يتماشى هذا النهج مع الرؤية الملكية الرامية إلى الجمع بين الانفتاح المدروس على العالم والدفاع عن المصالح الوطنية الحيوية.
في عالم تحكمه الواقعية وتتصارع فيه المصالح على رقعة الشطرنج الجيو-سياسية، تبقى السيادة الوطنية غير قابلة للتنازل، فهي ليست مجرد مفهوم قانوني بل ركيزة أساسية لكرامة الأمة واستقلالها. التصديق على اتفاق روما للمحكمة الجنائية الدولية قد يبدو خطوة نحو العدالة الدولية، لكنه في الواقع قد يكون بابًا خلفيًا لتقويض استقلالية قراراتنا السيادية وتسهيل التدخل في شؤوننا الداخلية. العدالة الحقيقية تبدأ من الداخل، من قضاء قوي ومستقل، ومن دولة تعرف كيف تدافع عن مصالحها بوعي استراتيجي يوازن بين الانفتاح المسؤول والتمسك بمبادئها الوطنية. إن حماية سيادتنا ليست خيارًا بل واجبًا، لأن الأمم التي تفقد سيادتها القضائية تفقد قدرتها على رسم مصيرها بنفسها.
0 تعليق