من الضباط الأحرار إلى مقهى الحرافيش.. رحلة أحمد مظهر بين الثورة والفن - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم يكن الفتان أحمد مظهر مجرد نجمٍ لامعٍ في سماء السينما المصرية، بل كان رمزًا نادرًا يجمع بين بطولات الميدان وجلال الفن، بين صرامة العسكرية ورهافة الإبداع. 
وُلد في زمنٍ كانت فيه مصر على أعتاب تحولات كبرى، فشارك في صناعة تاريخها مرتين: مرةً وهو يرتدي "بدلته" العسكرية ضابطًا في صفوف "الضباط الأحرار"، ومرةً أخرى وهو يحمل سيف البطولة فوق الشاشة ممثلًا لأعظم الشخصيات التاريخية. 
من مقاعد الكلية الحربية إلى استديوهات السينما، ومن ميدان الفروسية إلى حواراته العميقة مع نجيب محفوظ، ظل "فارس السينما المصرية" أحمد مظهر تجسيدًا حيًّا لفكرة الإنسان الشامل الذي لا تحده هوية واحدة، بل يصنع مجده بين السيف والكاميرا، وبين الوطن والفن.

في حي العباسية بالقاهرة، وُلد أحمد مظهر في الثامن من أكتوبر عام 1917، تخرج في الكلية الحربية عام 1938 في دفعة استثنائية ضمت الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات، بالإضافة إلى المشير عبدالحكيم عامر، وزكريا محيي الدين، وعبداللطيف البغدادي، وحسين الشافعي، وجميعهم من تنظيم "الضباط الأحرار".

أطلق عليه زملاؤه في الكلية لقب "البرنس" نظرًا لحسن مظهره وأخلاقه الرفيعة. بعد تخرجه، انضم مظهر إلى سلاح الفرسان وتدرج في المناصب حتى تولى قيادة مدرسة الفروسية، مما يدل على تميزه في المجال العسكري.
شارك في حرب فلسطين عام 1948، وبعد عودته انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار، وكانت بعض اجتماعاتهم تعقد في منزله في الحلمية، مما يؤكد مدى قربه من قلب الأحداث السياسية في تلك الفترة المصيرية من تاريخ مصر.

ومع ذلك، فإن ميوله الرياضية حالفت دون مشاركته الفعلية في ثورة 23 يوليو 1952، لأنه كان في ذلك الوقت يشارك في دورة الألعاب الأولمبية في هلسنكي كأحد المتسابقين في سباق الخيل من رجال الجيش المصري. ورغم ذلك، كلفه عبدالناصر بعد نجاح الثورة بقيادة مدرسة الفرسان، في دليل على ثقة قادة الثورة فيه ومكانته بينهم .

البداية الفنية من بوابة الفروسية

دخل أحمد مظهر عالم الفن مصادفة من بوابة الفروسية التي أتقنها خلال خدمته العسكرية، ففي عام 1951، اختاره المخرج إبراهيم عز الدين للقيام بدور في فيلم "ظهور الإسلام" بسبب إتقانه لركوب الخيل، حيث كان المخرج زوج أخت مظهر. 

وكان هذا الفيلم استثنائيًا في تاريخ السينما المصرية، إذ حضر عرضه الخاص وفد رفيع من الأزهر الشريف للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ الأزهر، وبعد هذا الفيلم، عاد مظهر إلى عمله في الجيش، لكن شغفه بالفن لم ينطفئ.

في عام 1957، كانت نقطة التحول الحقيقية في مسيرته الفنية عندما رشحه يوسف السباعي - الضابط بسلاح الفرسان وعضو تنظيم الضباط الأحرار والروائي المعروف - للقيام بدور الأمير الشركسي الأرستقراطي في فيلم "رد قلبي" المقتبس من رواية للسباعي بنفس الاسم. ولأنه لم يحصل على تصريح بالتصوير من الجيش، اضطر لاستخدام اسم مستعار هو "حافظ مظهر"، قبل أن يقرر لاحقًا تقديم استقالته من القوات المسلحة والتفرغ للتمثيل بعد أن نصحه جمال عبدالناصر بذلك، حيث قال مظهر في إحدى لقاءاته: "ذهبت لجمال عبد الناصر لأحصل على تصريح فأقنعني بالتسريح" .

علاقة استثنائية مع نجيب محفوظ وحرافيش الأدباء

كانت لأحمد مظهر علاقة صداقة استثنائية مع الأديب العالمي نجيب محفوظ، حيث جمعت بينهما صداقة عميقة استمرت منذ عام 1943، أي قبل أن يخوض مظهر المجال الفني. 
كان مظهر أحد أعضاء "شلة الحرافيش" التي كانت تضم إلى جانب محفوظ عددًا من الكتاب والأدباء والفنانين مثل مصطفى محمود وصلاح جاهين وتوفيق صالح وعادل كامل ومحمد عفيفي، والمفارقة أن مظهر نفسه هو من أطلق هذه التسمية على المجموعة، بعد أن قرأ كلمة "الحرافيش" في كتاب تاريخي قديم يرجح أن يكون (تاريخ الجبرتي) وأعجبه اللفظ فأطلقه على الشلة لأنها معبرة عنهم، فالحرافيش كلمة تركية تعني الصعاليك أو البسطاء. وقال محفوظ عن مظهر: "هو من أكثر الفنانين الذين التقيت بهم ثقافة واحتراما وحبا للحياة والوطن".

هذه الصداقة تجسدت في تعاونات فنية عدة، حيث عمل نجيب محفوظ كسيناريست لبعض الأفلام التي شارك فيها مظهر، منها أول تعاون بينهما في فيلم "الطريق المسدود" عام 1957، وفيلم "الناصر صلاح الدين" عام 1963، و"جميلة" الذي يروي قصة المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد عام 1958. بلغت العلاقة بين الرجلين من القوة أن أجرى مظهر حوارًا صحفيًا نادرًا مع محفوظ، نشرته مجلة الكواكب في 27 فبراير 1968، وهو الحوار الذي تطرق إلى مواضيع فنية وأدبية عميقة، مما يدل على ثقافة مظهر الواسعة وقدرته على خوض مثل هذه النقاشات مع أحد عمالقة الأدب العربي .

محطات إبداعية في مسيرة فنية حافلة

قدم أحمد مظهر خلال مسيرته الفنية التي امتدت قرابة 45 عامًا (1951-1997) أكثر من 100 عمل فني بين أفلام ومسلسلات ومسرحيات، وبرع في جميع الأدوار التي أسندت إليه، سواء كانت تاريخية أو عاطفية أو كوميدية، ومن أبرز أدواره على الإطلاق دور صلاح الدين الأيوبي في فيلم "الناصر صلاح الدين" عام 1963، وكذلك دور قطز في فيلم "وا إسلاماه"، حيث استفاد من ملامحه القوية وخبرته في الفروسية ليقدم شخصيات تاريخية مقنعة.

كما تميز في الأدوار الكوميدية مثل فيلم "لصوص لكن ظرفاء" أمام عادل إمام، وهو الدور الذي فاجأ به الجمهور بعد اعتادوه في الأدوار الجادة، لكن النجاح الكبير للفيلم جعل الانتقادات تتلاشى تدريجيًا. كما أبدع في أدوار الأمير الأرستقراطي كما في فيلم "رد قلبي" و"الأيدي الناعمة". وكان من أشهر أدواره التليفزيونية دوره في مسلسل "ضمير أبلة حكمت"، ومسلسل "عصر الفرسان". 

كما قدم أعمالًا إذاعية عظيمة، أبرزها المسلسل الإذاعي الشهير "العظماء 100 أولهم محمد". امتاز مظهر بقدرته على تأدية أدوار "الجان" رغم تقدمه في العمر، حيث بدأ التمثيل بعمر 42 عامًا، لكنه نجح في تأدية أدوار الحبيب أمام نجمات السينما المصرية مثل سعاد حسني ولبنى عبدالعزيز ونادية لطفي. بالإضافة إلى تمثيله، حاول مظهر الإخراج السينمائي فأخرج فيلمين كتبهما بنفسه هما "نفوس حائرة" 1968، و"حبيبة غيري" 1976 .

نهاية رحلة فارس وأسطورة

في يوم الأربعاء، 8 مايو 2002، رحل أحمد مظهر عن عمر ناهز 84 عامًا في مستشفى الصفا بالمهندسين بعد معاناة مع التهاب رئوي حاد، وشيعت جنازته بشكل مهيب من مسجد عمر مكرم بميدان التحرير، ودفن بمقابر باب الوزير قرب قلعة صلاح الدين الأيوبي، في نهاية دراماتيكية لفنان عاش حياته بين القلعة والكاميرا، بين التاريخ والدراما. ترك وراءه إرثًا فنيًا ضخمًا وإنجازات استثنائية نال خلالها أكثر من 40 جائزة محلية ودولية. 

كرمته الدولة في عهدي الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات، حيث قلده الأول وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1969، وكرمه الثاني بوسام رفيع في احتفالات مصر بعيد الفن، كما حصل على جائزة الممثل الأول في فيلم "الزوجة العذراء"، وجائزة عن دوره في فيلم "الليلة الأخيرة"، وتُكرّم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق