الإحصاء بين الفقراء والأغنياء - بلس 48

أخبارنا 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الإحصاء بين الفقراء والأغنياء - بلس 48, اليوم الخميس 24 أكتوبر 2024 02:54 مساءً

الحسين أربيب

يقال أن الفقر ليست عيبا، ربما ذلك قد يصدق على الفقير، ولكن في نظري أن الفقر هو أكبر عيب يمكن أن تسمح بتواجده أية دولة بين أحضان شعبها، لأن ظاهرة الفقر تستنزف تنمية البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وحتى صحيا ونفسيا، وتفكك تماسك النسيج الاجتماعي و تقوض تلاحمه وتقوية خلاياه واندماجه على كل الأصعدة، فظاهرة الفقر في أي مجتمع تعني عدة أمور مخلة بالتوازن الاجتماعي وعدة أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية، مسببة لتلك الظاهرة المعيبة ، كما أن الغنى ظاهرة تحفي وراءها عدة عوامل وأسباب ، منها أن الغنى هو غالبا ما يكون نتيجة الاستغلال الفاحش لليد العاملة لعاملة والربح غير المتناسب مع كلفة المنتوج ومكوناته وجودته ، وهذا ما يراكم لدي الأغنياء تجارا وصناعا ووسطاء رؤوس أموال بها يمولون مشاريع أخرى يسعون من وؤائها الى احتكار السوق وخلق شبكة من الأقطاب التي تقضي على التنافسية وتفتح الأسواق على فاعلين آخرين يساهمون في تنويع المنتوج وجعله في متناول القدرة الشرائية الضعيفة والمتوسطة . ولكن ما علاقة الفقر والفقراء والغنى والأغنياء بالإحصاء وتعداد السكان؟ أليست عملية الإحصاء مجرد عمليات حسابية وماسحة للظواهر والوضعيات البشرية من عدة جوانب ومبينة لمستويات البنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟ أجل مجردة الإحصاء كعملية لها أهميتها واولويتها بالسبة للدولة إلا وهي تعداد سكانها وتصنيفهم وفق معايير تسمح وتمكن من جمع معطيات دقيقة وعملية جامعة لعدد من المعطيات في شكل أرقام وبيانات وعلامات وخانات توظف في اتخاذ القرارات وتؤشر على المنحنيات والارتفاعات لمواطن القوة أو الضعف في الشريحة الاجتماعية أو الوظيفية المراد تنميتها او الاطلاع على نموها لرصد تطورها حتى تكون هناك إمكانية لتوظيفها في معرفة الخريطة البشرية وامكاناتها من حيث الأفراد النشطين فعليا والعاطلين ومختلف الأعمار والمستويات المختلفة الدراسية وتخصصاتهم ، معطيات على أساسها وجب اتخاذ القرار السياسي الاستراتيجي في كل ما يتعلق بمنهجية الدولة وخطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. من أجل ذلك كان الإحصاء وسيلة علمية وبيانية التي على أساسها تتخذ القرارات المصيرية لمستقبل الدولة ومواطنيها. فيكون الإحصاء على الصعيد المحلي والوطني يمكن صاحب القرار من القدرة على معرفة التجهيزات التي تفتقر لها الجهة المعنية من مدارس ومستشفيات وطرق، كما أن الإحصاء يمكن المقرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي من معرفة أسباب الفقر بعد إحصاء السكان وتصنيفهم من نشطين الى معطلين ومن هم بدون مهنة محددة والذين وجب تكوينهم لدمجهم في حركية النشاط الاجتماعي عوض أن يظلوا عرقلة لها. كما أن الإحصاء يمكن أن يبين خريطة تراكم الثروة في البلاد ومدى تمركزها في شريحة اجتماعية معينة ، ويفسح المجال لمقرر الإخضاع الضريبي أن يستنتج من خلالها خلاصة من شأنها أن تسهل كيفية فرض الضريبة على الثروة بنوع من العدالة وبطريقة جزافية من خلال العناصر الظاهرة والخفية للغنى وتراكم الثروة والرأسمال وإن كانت الثروة لا تخفي رأسها في الرمال لأن هناك مصادر موثوقة تمكن الاطلاع عليها في الحسابات البنكية والمحافظات العقارية وسجلات التعشير لدى الجمارك والأسواق المركزية وسوق الأموال والودائع التي لوزارة المالية أخصاء في هذا المجال لترصد الثروة أينما كانت ـ، يكفي أن تكون هناك إرادة سياسية واقتصادية لذلك.

               إن علاقة الفقر والغنى بالإحصاء علاقة متلازمة لأن الإحصاء هو عملية منيرة وكاشفة لواقع اقتصادي واجتماعي وسياسي ، والفقر هو ظاهرة مركبة من أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية ، فالسياسة التي تنتج الفقر هي تلك السياسة التي استحوذت عليها فئة من الناس لا هم لهم سوى جمع المال واستغلال الكرسي لخدمة مصالحهم وحمايتها من خلال البقاء في السلطة واستصدار القرارات التي تركز كل بنودها وأهدافها ووسائلها المادية والمعنوية لتمكين الرأسمال من جني الأرباح دون التفكير في اليد العاملة التي تنتج تلك القيمة المالية المضافة في تراكم الرأسمال والأرباح لدى الطبقة الرأسمالية التي تجد في اليد العاملة المنتجة وسيلة بشرية إنتاجية رخيصة لا تكلفها أي شيء مقارنة ما تجنيه من أموال طائلة مقابل ما تقدمه لهم من فتات. فالفقراء تعدادهم من السهل بمكان ، فهم متواجدون في الشوارع إما متسولين أو بائعين لأشياء لا قيمة لها أو ماسحي الأحذية ولو في زمن أصبحت الأحذية مستبدلة بالحذاء الرياضي الذي لا يحتاج الى مسح ،فيتحولون لمتسولين حاملين "شهادة "الماسحة للأحدية التي غيبتها سرعة التطور كما يفعل" الكراب "الذي مازال يلبس زيه المزركش بالأحمر ليمد يده اليمنى ويده اليسرى على الجرس الذي لم يعد صوته يرن كما كان في زمن الرخاء والعطش لأن الجهد كان مبذول بحق من أجل نيل قوت اليوم ، أم اليوم فلا جهد يبذل الكل أصبح يبحث عن الأسهل ولوكان في الممنوع أخلاقيا وقانونيا لا يهم لا ذاك ولا هذا عند الكثير من امتهنوا عدم القيام بأي جهد ،بل صاروا محترفي النصب ،والنصابون مستويات ، وارقى المستويات هم من يحصلون على كل شيء بالوصول لمناصب عليا في السلطة ومن هناك يتصيدون الفرص وتتراكم لديهم الثروات دون تعب ، لأن السياسة صارت في الوقت الحاضر استثمارا مربحا لأن أبوابها مشرعة على المفسدين وهم من يفسدون في الأرض طالما ظلت السياسة غير مقننة ومحددة المعالم ومسيجة بالتربية والمعرفة والمروءة ، لأن خدمة الشأن العام ليس معطى متاحا لمن هب ودب ، بل هو عمل نبيل يستوجب لمن يريد دخوله التحلي بأرقى المستويات الفكرية والإنسانية والتربوية والشخصية المتزنة والمجربة والرصينة . . . إن الفقراء يؤثثون مشهد الوطن ويصنفون السياسة القائمة بأجسادهم الهزيلة ويعبرون عن نتائجها من خلال تقاسيم وجوههم وتجاعيدها، فلا هم يبتسمون ولا يضحكون، هم في منزلة لا هي هاته ولا تلك، كأنهم توابيت متنقلة، لا يحركون هوى شفاههم وأيديهم لطلب الصدقات. وهكذا تراهم بائعين للهوى ليلا ونهارا، ويجرون عربات لنقل بضائع الناس أو تائهون لا يعرفون أن يولون وجوههم من ثقل الحرمان الذي نزل عليهم جراء سياسات همشتهم وسلبت منهم كرامتهم وجوهر كياناتهم ليصيروا كأجساد خاوية لا يعلمون للوجود وجودا . . . وهكذا نجد الفقراء في هوامش المدن المحيطة بالمناطق الخضراء حيث يقطن الرخاء والفرق الشاسع بين الأحياء الفقيرة والأحياء الغنية لا يخطئ في تحديدها حتى الأعمى، فهذا الأخير يعرفها بهدوئها ورائحة المسك والياسمين التي تعبق الأنوف العادية وبالأحرى أنوف فاقدي البصر لا البصيرة. لأن ثمة الذين لا بصر لهم ولا بصيرة فهم كالدواب يدبون على الأرض ولا يعلمون أين يتجهون، أما الإحصاء فقد جاء ليحصيهم ويكشف عن وجودهم المادي بأنهم أحياء يرزقون أو عن أرزاقهم يبحثون . لكن لا هم يشتغلون ولاهم يعبرون عن إرادتهم ومواطنتهم وأحقيتهم في العيش الكريم ، فهؤلاء في أغلبيتهم هم الذين يشكلون طعما سهلا للسياسيين الذين يستحوذون على أصواتهم بالوعود التي لن تر النور أبدا ، ومع ذلك تتكرر العملية في النصب عليهم عند كل محطة انتخابية أو استحقاق سياسي ، فهم الذين يملؤون قاعات التجمعات الحزبية ويصفقون لخطابات السياسيين التي تتكرر في كل مناسبة ولا شيء منها تحقق .

             والأكيد أن الفقر يرى بالعين المجردة ولا حاجة للمكلف بالإحصاء أن يحمل لوحته الإلكترونية وبطاقة تكشف هويته لمعرفة ظاهرة الفقر المتفشية في مدننا وقرانا المتوأمة مع الفقر، بل يكفي أن يترجل في أزقة المدن والدواوير بالبادية ليرى ألوانا وأشكالا من الفقراء فمن الجالسين بجانب جدران المساجد يمدون أيديهم طلبا لصدقة، والواقفين امام بائع النعناع ينتظرون الجود عليهم بدريهمات التي ترد للزبناء من طرف البائع. كما للمكلف بالإحصاء وصاحب عملية الإحصاء ومن أشار له بالقيام بعملية الإحصاء أن يلتفت لهؤلاء الواقفين صفوفا للحصول على لقمة غير محددة المكونات الغذائية لسد رمقهم بوجبة رخيصة وسريعة ... حتى تستمر لديهم ما يشبه بالحياة ،والطامة الكبرى هي لما يطبق الفقر على معاش المتقاعدين ويجره لدائرة الفقر ، وهم الذين كانوا في الأيام الخوالي يحصلون على "ماهية " كما يقول إخواننا المصريون ، ويعتبرون أنفسهم من موظفي الدولة ، تلك الدولة التي تركتهم اليوم وحدهم يواجهون غلاء المعيشة ومواجهة المرض بتركهم يفعلون ما يريد بأجسامهم التي تراخت لتصير كومة عظام ، بعدما حملت على أكتافها ثقل كل الصعاب زمنا كانوا فيه نشطين ، واليوم بعد أن غاب نشاطهم غابوا عن حسابات الدولة التي استنزفت قواهم ولم يحصلوا على زيادة المعاش الذي يقتطعون منه ضريبة على الدخل بالرغم من أنه معاشا وليس دخلا الذي خصمت منه تلك الضريبة طيلة المدة التي كان فيه دخلا. ومن حق الذين دعوا عبر وسائل التواصل من المتقاعدين الدعوة الى مقاطعة الإحصاء لأن الدولة وفق دعوتهم لم تعتبرهم مواطنين بخصوص الزيادة في معاشاتهم إسوة بباقي الموظفين ، والحال أن السياسية ألإقتصادية التي لا تهم بتوزيع الدخل وأثاره على المستوى المعيشي لكل شرائح المجتمع وكذا انعكاس اثاره على الفقر، لأنها ليست سياسية تبحث عن الاستقرار والسلم الاجتماعي، بل إنها ذات انجاه واحد هو إفقار الفقير وإغناء الغني. لذا نجد أن هذه السياسة الماكروإقتصادية لها تداعيات على توزيع الدخل وعلى الفقر الذي يشكل انشغالا كبيرا لدى الساسة والاقتصاديين على السواء لما لذلك من نتائج سلبية على السير العادي للدولة ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكن ذلك الانشغال سريعا ما يتلاشى بمجرد الابتعاد عن منابر خطابية أو لقاءات إعلامية . . والإحصاء عملية معقدة ومتشابكة لأنها ليست فقط أرقاما وتوصيفات ووضعيات اجتماعية واقتصادية ، وأنماط عيش ، بل هي سياسة عامة شاملة لكل الوضعيات التي يكون محورها الأساسي الإنسان، ذلك الإنسان الذي بسببه جاء الإحصاء كمنظومة ومجموعة أنساق واستمارات وبيانات تحاول تحديد هيكلة المجتمع من كل الجوانب لرصد توجهاته ووضعياته واتجاهاته في جميع الميادين ، ومن خلال الإجابات التي تجمع في هذه العملية الإحصائية تستنتج بعض الخلاصات التي يمكن أن تتحكم في استصدار بعض القرارات التي على أساسها تبنى السياسات أو جوانب منها . وكلما كان الإحصاء دقيقا ومفصلا وشاملا وعلميا وغير منحاز لهذه الجهة أو تلك ، كلما كان ناجحا ومادة خصبة وغنية لكل من يهمه الأمر من دارس للمجتمع أو سياسي أو اقتصادي يريد أن يصدر قرارا في كل جوانب المجتمع وإمكاناته المادية والفكرية والصحية والاقتصادية . . والشروع في عملية الإحصاء العام للسكان يطرح عدة أسئلة لدى الناس، أسئلة تظل مؤرقة للعامة ولا تلقى أجوبة محددة تشفي الغليل، ولكن الصعب في العملية هي تلك الأسئلة المحرجة للسياسي والتي تلعب في ساحته التي ظلت لزمن بعيد تنأى على النقاط السوداء في المجتمع والتي تشكل مصدر القلق لدى المسؤولين عن الأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أسئلة تتجاوز كم نحن؟ بل أين نسير؟ وبأي إمكانات مادية وذهنية وتقنية وتكنولوجية في عالم أصبح يستعمل الذكاء الاصطناعي في الوقت الذي مازلنا نحن نستعمل أدوات يدوية بدائية في كل المجالات ، والأدهى هو أننا لم ندخل مرحلة البحث العلمي لأن تعليمنا مازال لا يستعمل العقل بقدر ما يعتمد على تكديس المعلومات لدلى الطلاب من خلال الحفظ. .

                   إن إحصاء الفقراء عملية صعبة لأن الفقر عندنا متعدد الوجوه والوضعيات فقر مادي ومعنوي، والفقر ليس له نفس التأثير وفق السن والمحيط الترابي والاستعداد الشخصي لمواجهة ظاهرة الفقر، لذا يصعب جدا تحديد دائرة الفقر ) والقيام بذلك مغامرة ليست سهلة. فحتى مؤشر التنمية البشرية الذي يوظفه برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية لتقييم مستوى التنمية في دول العالم يرتكز على ثلاث عناصر وهي نسبة الأمل في الحياة ومستوى التكوين الفكري ومعدل الدخل الفردي ، لن يجد وظيفته عند فقرنا لأن أمل الحياة يكاد ينعدم ولو أن الإنسان الفقير في بلادنا يجتر السنوات كما يجر أثقال المحن ، أما التكوين فهو مكون في رأس الدرب يعد "الغادي والماجي" أما عن الدخل الفردي فهل يمكن اعتبار 30 درهما التي تجود بها يد الأخ أو الأخت أو العم أو الخال الذي يشتغل ولا نعرف في أي مجال بالضبط حتى؟

                                                        .

      أجل فالمعرفة هي القوة والجهل هو الضعف والهشاشة ...نعم الفقر هو نتيجة مباشرة لعدم المعرفة ، إن المعرفة تفتح الآفاق وهي التي تعطي لصاحبها أدوات التحليل ومنهج الحياة يتضح ، وبالتالي تسهل عملية البحث عن مخرج يحرر الإنسان الفقير من ظلام الوضع المزري ومن هيمنة العزلة عليه فيتكون له بالمعرفة أدوات للتواصل والإيصال ولغة التخاطب تتحسن عنده بشكل يقربه من مركز المجتمع الاقتصادي والاجتماعي ويمتلك بالتالي أدوات الإندماج في المجتمع ليلتحق من الشريحة النشيطة عوض أن يظل عرقلة لعجلة التنمية. ا

               أما بالنسبة لإحصاء الأثرياء فالعملية فيها وفيها ، أولا هناك الأثرياء الشرفاء الذين لا يجدون حرجا في إحصائهم لأنهم حصلوا على الثروة بعرق جبينهم وكلفتهم الفكر والتعب وكثير من التخطيط واستجلاب اليد العاملة وتوظفيها بإمكانات مادية وتقنية لتطوير الرأسمال ، بالاعتماد على تطوير الرأسمال البشري وتكوينه واحترام حقوقه وتلبية مطالبه تمشيا مع ارباحه وازدهار ثروته، أما الأثرياء الذين اغتنوا بلا سبب معقول ،سوى من خلال النهب والاحتيال وهضم الحقوق للعمال والفلاحين وكل اليد العاملة في المعامل او المنازل او في البناء والحقول والمصانع ، إن عملية إحصائهم صعبة لأنهم لن يتقدموا بالمعلومات المطلوبة خشية كشفها لمصالح الضرائب التي يخفونها عنها حتى لا يخضعون لحساباتها ، وبالتالي فالقائم بالإحصاء لن يد في مدخل الفيلا سوى الحارس وصاحب الفيلا في قيلولة طويلة لن يستقبله مهما عاد مرات ومرات ، والمقدم وكل المخابرات حتى لو عرفت الكثير عن هؤلاء فهي لا تستطيع أن تكشف ثروتهم لأنهم فوق الإحصاء وفوق الحساب سواء العددي او الحساب القانوني ولا السياسي والاقتصادي لأن من يملك الثروة في دول مثل دولتنا يملك مفاتيح إصدار القرارات وإملائها على من يصدرها بطرق مختلفة منها ما هي واضحة للعيان كالتهرب الضريبي ومنها ما تدخل في إطار منهج سياسي وتخطيط اقتصادي لا يسمح بالوصول لتلك الثروة للحد منها أو مراقبتها. فالأثرياء يبنون سياجا وقائيا يجعل القوانين تتجاوزهم أو هم يتجاوزون تلك القوانين لا أعرف بالضبط وعلى أي أساس يمنك مساءلتهم ومراقبتهم فلا ثروتهم تمس ولا هم يسألون وبالتالي فكيف يمكن إحصاؤهم ؟ . لزجة إحصائية مادة إن الحرج الذي سيلحق القائم النزيه بالإحصاء لا يمكن الشعور به لأنه إحراج متعدد الوجوه فهو أمام عينة لا يمكن ضبطها في شريحة معينة، لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف ،فهي لا تريد أن تكون موضوع إحصاء من أي نوع، وبالتالي فهي تشكل ثغرة كبيرة في عملية الإحصاء هاته ، لذا قبل القيام بالإحصاء يجب ضبط معاير العملية وكل روافدها وما يمكن أن تنتج من ظواهر غير إحصائية تدخل فيها ما يعود لشخصية الإنسان المحصي وتكوينه وتشبعه بمبادئ وأفكار اجتماعية واقتصادية وسياسية قد لا تساير العصر، فالإحصاء إذن قبل أن يكون عملية علمية تدخل فيها الأرقام ووصف الوضعيات والحالات من فقر وثراء ومن يملك كذا وكذا ومن لا يملك سوى كذا ومن لا يملك أي شيء . . وبصفة عامة لكل من الفقراء و الأغنياء، مواقف من عمليات الإحصاء ، كما لهم طرقا وأساليب للتعبير عن عدم تجاوبهم مع المكلفين بالإحصاء ولا يكشفون عن مبرراتهم كما عبر بعض المتقاعدين بحيث دعوا الى مقاطعة الإحصاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي لأن الحكومة "لا تعتبرهم مواطنين "بخصوص عدم الزيادة في معاشاتهم . ، بإقامة المتاريس للاختباء ، والابتعاد عن فضاءات عمليات الإحصاء لهذا كلا الفئتين تتهربان من التعامل مع العمليات الإحصائية وذلك وفق مصالح كل فئة اجتماعية ومرجعياتها وخلفياتها التصورية لتلك العمليات بالخصوص والتعامل مع كل ما يأتي من أجهزة الدولة أو ما ترى هذه الطبقة او تلك أنه من مصلحتها ، فالفقراء يهربون الى الأمام والأغنياء لا نعرف الى أين يهربون لأن لا أحد يراهم ، فهم يقطنون خارج المدينة في أحياه لا تصله القدم الحافية ولا تراهم العين لأنها في مقرات محصنة بالجدران العالية والشجر الكثيف ولا يمكن الاقتراب منها لأن الحراسة مشددة بكلاب وكاميرات ودوريات أمنية مستديمة . اما الفقراء فسواء احصيناهم سيتم الرفع من مستواهم الاقتصادي؟ وهل سنزيل عنهم ضغط الفقر؟ إن لم نقم بتعليمهم وتربيتهم على العمل والصدق والتحلي بالممارسة الديموقراطية ، والتشبث بمبادئ العدل والمساواة ؟ وهل للإحصاء دخل في الحد أو على الأقل المساهمة في قادم السنوات من بتر السلاسل البشرية من الفقراء الممتهنين للتسول والدعارة والبطالة وبؤر الجهل وانتشر الأمراض دون وجود العلاجات ؟ وكثير من مزاهر التخلف التي لا يمكن للمكلف بالإحصاء إحصاءها أبدا ... .

                    وهل يمكن الخروج بانطباعات محددة عن إحصاء للسكان وعددهم يفوق إمكانات وطموحات النخب السياسية والاقتصادية ؟،فهل الإحصاء من شأنه أن يوسع البنيات التحتية للطرق وخطوط السكك الحديدية والمطارات والموانئ، ويخطط لشبكة من بنية صحية على كل الخريطة الوطنية بلا تحيز لجهة ما أو التركيز على جهة دون أخرى ،وإقامة سلسلة من مدارس وكليات متخصصة ومراكز للتكوين ومصانع للاكتفاء الذاتي ، وتحصين العقل المغربي وتنميته من خلال تعليم وتربية تصون هوياته وتبرز شخصته بين الشعوب ، عوض تركه بين رياح التفاهات والمسخ الذي يتلاعب بعقول أجيالنا ليصير مادة للتجارب والتغلغل الثقافي الذي يؤدي الى الخنوع والخضوع لأفكار تفتت في المهد هوياتنا ومقومات مغربيتنا ومعتقداتنا الفكرية والعلمية والدينية . طبعا إن الإحصاء قبل أن يكون عملية حسابية مجردة وأرقاما وبيانات ، فهي سياسة وأفكار سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية ، تروم العملية الإحصائية بلوغها عبر كل المناهج المستخدمة فيها ، وبغياب تلك السياسة وهذا هو الملاحظ ، لن تقوم للإحصاء غاية ، إلا بقيام سياسة إحصائية مقرونة بالتنمية الشاملة التي تهدف للقضاء أولا على الجهل والتركيز على التعليم الجدي والمرتكز على البحث العلمي وتنميته وتخصيص ميزانيات ضخمة لتمويل مراكز البحث العلمي في كل المجالات عوض هدر الأموال في الحفلات والمآدب التي تلقى في الأخير في القمامة . . . وفي الأخير يبقى الإحصاء مجرد رقم ومؤشر على عدد ما قد يتحول لفكرة ما ، يتخذها المقرر بعين الاعتبار أو لا يعيرها أي اهتمام لاتخاذ قراره السياسي او الاقتصادي أو الاجتماعي ،أو يظل الإحصاء فكرة تدور في ذهنه قد تضحكه أو تحزنه حسب تربيته ومنظوره للحياة عامة. وسياسة الإحصاء هي المرتكز في كل هذا الأمر لأن أسس السياسة والنظام القائم والذي ليس ما تفعله النصوص القانونية بل هي ما تضعه الأفعال من خلال واقع مكونات المجتمع وما يتخلله من تيارات فكرية واقتصادية وسياسية وما تحدده مراكز الأقطاب والتحالفات لتبادل المصالح والمنافع في ظل تنظيمات وبنيات سياسية وحزبية ونقابية تشكل ضغوطات وتفرز مواقف وتصنع سياسات تمرر في قرارات ربما لا تلتفت للإحصاء ولكنها عينها على كيفية إدارة دفة الحكم والتحكم فيها لتظل مستقرة وفق ما تمليه الاستراتيجيات المحلية والخارجية والتي في كثير من الأحيان تختلط وتتقاطع وتنتج ما لم يكن في الحساب لا الإحصائي ولا الحساب الأخير الذي قد يكون بداية أو نهاية سياسة .        

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق