محمد سعد عبد اللطيف يكتب: في وداع صوت لا يُنسى.. الشيخ السيد السعيد ترجل من محراب التلاوة إلى رحاب الخلود

حين يموت بعض الناس، يصمت العالم قليلاً… لكن حين يرحل قارئٌ من طراز الشيخ السيد السعيد، فإن القرآن نفسه يكاد ينحني احترامًا، ويترقرق في العيون دمعٌ لا يعرف صاحبه من أين أتى. فكيف إذا كان الراحل صوتًا مكللًا بالسكينة، من مدرسة لا تتكرر، من تلك القمم التي تختبئ في ريف مصر ثم يصل صداها إلى العالم…؟

من فوق سبع سماوات، اختص الله شعب مصر بنعمة ترتيل كتابه المجيد، فأنبتت أرضها الطيبة قُرّاءً حملوا في أصواتهم نبرات السماء، وفي قلوبهم وقار الذكر الحكيم. وما بين جنبات النيل، وعلى ضفاف القرى والمآذن، سَمت المدرسة المصرية في التلاوة، شامخة، عبقرية، لا تقلد أحدًا، بينما يسعى العالم كله ليتعلم منها سرّ الجلال والجمال.


وفي طليعة هؤلاء العظماء، وقف الشيخ السيد السعيد، ابن الدقهلية البار، بوقاره، وصوته النديّ، وقراءته التي تُشبه البكاء النبيل. كان إذا تلا سورة يوسف، صمتت القلوب قبل الآذان، واهتزت الأرواح من خلف الشاشات، من أقاصي المشرق إلى جنبات المغرب، كأنما يوسف نفسه خرج من البئر على لسانه، ينادي إخوته بصوت يفيض رحمةً ومغفرة.

لم يكن الشيخ الراحل تاجر تلاوة، ولا صاحب أجرٍ مُرتفعٍ في مناسبات الدنيا، بل كان قارئًا من زمن الصفاء، من زمن كان فيه الترتيل عبادة لا مهنة، وكان فيه القارئ حارسًا على أبواب الخشوع، لا باحثًا عن الأضواء. وفي زمن القنوات والميكروفونات، ظل صوته نقيًا كجدولٍ صغيرٍ يشق طريقه في ريف الدقهلية، ليصل إلى العالم بلا وسائط ولا ادعاء.

واليوم، شيّعت محافظة الدقهلية جثمان الشيخ السيد السعيد في جنازة مهيبة، حضرها محبوه، وأهل قريته، وكوكبة من أعلام دولة التلاوة في مصر، حيث أقيم حفل تأبين مؤثر، جمع فيه الحضور بين الدعاء والدموع، في وداع رجل أخلص لكتاب الله، وجعل من كل آية مرتّلة نورًا في دروب المستمعين.

إنها الدقهلية، المحافظة التي أنجبت عباقرة في الأدب والغناء والقراءة، تودع اليوم عَلَمًا من أعلامها، صوتًا كان يُتلى في بيوت الفجر، ومآتم الحنين، ومواسم العودة إلى الله.


رحم الله الشيخ الجليل السيد السعيد، وأسكنه فسيح جناته، وجعل القرآن شفيعه، وقراءته نورًا على قبره، وصوته صدقة جارية في السماء والأرض.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.،،!!

. .630h

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *