15 مايو ليس يوماً عادياً في الذاكرة الفلسطينية، بل يمثل لحظة تاريخية مفصلية تُعرف بـ”النكبة”، حين تم تهجير ما يقرب من 750 ألف فلسطيني قسراً من ديارهم خلال الفترة الممتدة بين أواخر عام 1947 وبداية 1949، مع قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية. هذه الكارثة لم تقتصر على التشريد والقتل، بل طالت هوية الفلسطينيين الثقافية والعمرانية، فهُدمت القرى، وتشوّهت المدن، وغابت معالم المعمار الفلسطيني العريق الذي تجذر في الأرض لقرون.
ما هي النكبة ولماذا يُحييها الفلسطينيون؟
يُحيي الفلسطينيون في 15 مايو من كل عام ذكرى النكبة، كتعبير عن الحداد والرفض للظلم التاريخي الذي طالهم. ومع طرد مئات الآلاف من السكان الأصليين وتحويلهم إلى لاجئين في دول الجوار، لم يُسمح لهم بالعودة، رغم القرارات الأممية، ويمثل هذا اليوم رمزاً للنكسة والاقتلاع، ويُعد جزءاً لا يتجزأ من الرواية الفلسطينية في مواجهة محاولات الطمس والتزييف.
نشأة الصهيونية ووعد بلفور.. الأسس السياسية للنكبة
مع صعود الحركة الصهيونية في أوروبا نهاية القرن التاسع عشر، وسعيها لإقامة “وطن قومي لليهود”، كان وعد بلفور عام 1917 نقطة تحول خطيرة. فقد تعهدت بريطانيا، القوة الاستعمارية آنذاك، بدعم إنشاء دولة لليهود في فلسطين، دون اعتبار فعلي للوجود الفلسطيني القائم، بل استخدمت عبارة فضفاضة تشير إلى “الطوائف غير اليهودية” لضمان “حقوقها المدنية والدينية” فقط، دون أي ذكر للحقوق السياسية أو السيادة.
النكبة والعمارة الفلسطينية.. من الغنى إلى التشويه
قبل النكبة، كانت العمارة الفلسطينية شاهداً حياً على تفاعل الإنسان مع بيئته، غنية ومتنوعة وتعكس التنوع الجغرافي والثقافي، من جبل الخليل إلى سهل الحولة. استخدم الفلسطينيون مواد محلية كالحجر، والطوب، والقصب، وشيدوا منازل ذات أقواس وقباب وساحات داخلية، بحسب احتياجاتهم المعيشية. لكن النكبة شكّلت قطيعة حادة في هذا الإرث، حيث دُمّرت مئات القرى، ومُسحت ملامحها العمرانية عن الخريطة.
التهويد المعماري.. من قرى مهدّمة إلى غابات زائفة
يرى الباحث الفلسطيني نظمي الجُعبة، أن التدمير لم يكن عشوائياً، بل كان ممنهجاً يهدف إلى طمس الوجود الفلسطيني المادي والرمزي، فقد زُرعت الغابات مكان القرى المدمرة، وتمت إعادة صياغة الأماكن لتتناسب مع السردية الإسرائيلية، كما حدث في قرية لفتا المهجّرة، التي تُعرض اليوم كموقع “تراثي يهودي”. ليس ذلك فحسب، بل طال التزييف عناصر الثقافة الفلسطينية، مثل “الفلافل، والثوب المطرز، والكوفيّة”.
المشهد العمراني قبل 1948: فسيفساء من التراث والتحديث
عاشت فلسطين، قبيل النكبة، حالة معمارية فريدة تمزج بين التقليدي والعثماني والأوروبي. في القدس ويافا وحيفا، شُيدت كنائس ومدارس ومستشفيات على طرازات متنوعة، بفعل التواجد التبشيري والمستعمر. حتى في البيوت الخاصة، بدأ الفلسطينيون في تبني أنماط جديدة، كالأسقف القرميدية والهياكل الحديدية، مع الحفاظ على الروح المحلية في التصميم.
ما بعد النكبة.. العمارة في سياق اللجوء والانقطاع الحضاري
أدت النكبة إلى ظهور مساكن لاجئين تفتقر للجودة، شُيدت على عجل لتوفير مأوى للمهجرين، كما تدهورت الذائقة المعمارية بسبب غياب الحرفية والاستثمار في البناء. حتى في الضفة الغربية، شهدت القرى القديمة إهمالاً وهجراً، ما أسهم في تهالكها أو تدميرها جزئياً لصالح مبانٍ حديثة بلا هوية.
منذ أوائل التسعينيات، ظهرت مبادرات فلسطينية لإحياء التراث المعماري، مثل مؤسسة رواق، ومؤسسة التعاون، ولجنة إعمار الخليل. عملت هذه الجهات على توثيق المباني التاريخية، وترميمها، وتعزيز الوعي بأهميتها كجزء من الهوية الوطنية.
العمارة كأداة مقاومة.. لماذا يجب أن نحمي بيوتنا القديمة؟
البيت الفلسطيني التقليدي، وفق الجُعبة، هو أكثر من جدران وسقف، إنه تعبير عن الانتماء، وذاكرة جماعية، ودليل على حق العودة. في ظل الاستهداف المستمر، كما يحدث اليوم في غزة، تصبح حماية هذا الإرث العمراني شكلاً من أشكال المقاومة اليومية، تماماً كما تفعل الكوفية والمفتاح والثوب المطرز.
تعليقات