فى صباح أحد الأیام، داخل منزلى بحى المعادى، الهادئ نسبیًا، سمعت صراخًا وجلبة أیقظانى من نومى، سمعت أحدهم یصرخ صرخة رجّت جنبات روحى، هرعت إلى نافذتى، لكن زهور شجر الـ«بونسیانا» الذى یغطى الشارع من أسفل النافذة أعاقتنى عن رؤية ما يحدث.
ارتدیت من الملابس ما یناسب نزولى وهرعت إلى الشارع، وهناك وجدت رجلًا فى الستینات من عمره یصرخ من جرح قَسَم یده إلى شطرین بلا مبالغة.
كان الجرح كبیرًا، والألم عظیمًا. حاول كل مَن شاهد الحادث أن یمد ید العون للرجل الستينى، بداية من الاتصال بالإسعاف، مرورًا بجلب كرسى ووضع «كَبشة بُن» على راحة كف الرجل التى انقسمت إلى جزءین نتیجة احتكاكها بزجاج مكسور، فى كیس القمامة الذى كان یعمل على فرزه لاستخراج البلاستیك منه. كان الرجل یبكى فى قلة حیلة وحزن: «أنا بلم البلاستیك، واحد تانى شغلته الورق، حد تالت بیلم الحاجات العضویة، مش عارف الناس هتخسر إیه لو فصلت الزبالة ورحمتنا؟!». أنهى كلامه ثم ركب مع أحد زملائه قاصدین مشفى ما للعلاج.
إعادة التدوير يمكن أن توظف أكثر من 3 ملايين عاطل.. ومشروعات صغيرة ومتوسطة بإيرادات سنوية تتجاوز الـ٣٠٠ ألف جنيه
خلق الموقف سالف الذكر دافعًا قويًا لتغییر عادتى فى جمع نفایات منزلى، لمَ لا أوفر كل هذا الوقت والجهد على هؤلاء الموظفین المساكین؟ والیوم أضفت: ولمَ لا أوفر لهم السلامة أیضًا؟
كنت أعلم أن دول العالم الأول تفعل ذلك، قرأت عنه وشاهدته فى أفلام تسجیلیة استعنت بها لتعلم كيفية فصل قمامتى بطریقة صحیحة حتى أتمكن من المساعدة بشكل فعال.
فى زیارتى السریعة إلى ألمانیا استأجرت شقة، شدد صاحب الشقة على توضیح الأمر بخصوص القمامة: «انتبهى جیدًا! القمامة مُقَسمة إلى أربعة أقسام، ورق وبلاستیك وزجاج ونفایات عضویة، عليكِ الاهتمام بفصلها بهذا الشكل».
نزلنا إلى حدیقة العمارة الخلفیة، حیث تستقر ٥ حاویات كبیرة مكتوب على كل حاویة بالألمانیة اختصاص كل منها، الحاویة الخامسة للحالات الاستثنائیة التى لا یتمكن صاحبها من فصل النفایات فیضع القمامة داخلها بلا فصل، نظرت بداخلها، وسعدت لأنى وجدتها فارغة.
یعكس ذلك حرص الشعب الألمانى على فصل نفایاته من ناحیة، ومن ناحیة أخرى یعكس خوفه من الغرامات، فكما علمت من صاحب الشقة، یدفع شهریًا ما یعادل ٢٠٠ یورو رسومًا للقمامة. أما وجود مخالفات فيعنى دفع كل شقة فى العمارة ١٠٠٠ یورو مقابل قيام موظفى جمع القمامة بفصل مخلفاتهم، لذا لا یجرؤ ساكن على عدم فصل النفایات لصرامة القانون.
بفضول الصحفیة جمعت معلومات عدیدة حول فوائد تطبیق هذه الاستراتیجیة فى مصر. وبمناسبة أنى أقیم فى ألمانیا، خلال هذه الفترة، ذهبت للتقصى حول الفوائد المحتملة التى يمكن أن تجنیها مصر إذا ألزمت المواطنین بهذا الإجراء.
وجدت أن إعادة التدویر تمثل فرصة اقتصادیة واعدة لمصر، إذ یمكن أن تسهم فى تحقیق عوائد مالیة كبیرة، وتوفیر فرص عمل جدیدة. وفقًا لتقریر حكومى، جاءت مصر فى المرتبة ١٤ عالمیًا من حیث معدلات إعادة التدویر لعام ٢٠٢٣.
وبالنسبة للعوائد المالیة المحتملة، تشیر التقدیرات إلى أن العائد السنوى المتوقع من إعادة تدویر المخلفات فى مصر یمكن أن يضیف إلى الدولة عائدًا اقتصادیًا مهمًا یبلغ نحو ملیار جنیه سنویًا، من خلال توفیر الموارد واستعادة مواد خام یتم إهدارها.
ويمكن لإعادة تدویر المخلفات فى مصر أيضًا توفیر المواد الخام الأولیة للصناعات المحلیة المتوافرة بدلًا من استیرادها، مثل الزجاج والبلاستیك والورق والكرتون، من خلال استخدام هذه المواد الخام فى الصناعات الخاصة بها كبدیل أفضل جودة.
من جانب آخر، تسهم إعادة التدوير فى حل مشكلة ندرة فرص العمل والبطالة المستشریة فى المجتمع. ويمكن خلق قرابة ٣.٢ ملیون وظیفة بحلول ٢٠٣٠، إن استثمرنا فى هذا الاتجاه، بدایة من العام المقبل ٢٠٢٥.
كما أن العائد كبير أيضًا فى حال تنفيذ الأفراد مشروعات صغیرة ومتوسطة للاستثمار فى هذا المجال. على سبیل المثال مشروع إعادة تصنیع واستخدام الزجاج المكسور لإنتاج الألیاف الزجاجیة یمكن أن یحقق إیرادات سنویة لصاحبه قد تصل إلى ٣٣٠ ألف جنیه بنهایة العام الأول، مقارنة بنحو ٤٧٠ ألف جنیه بنهایة العام الخامس.
دعم إنشاء شركات ناشئة لجمع وفرز وتدوير النفایات.. وخفض الضرائب «مساعدة ضرورية» من الدولة
افتتحت مصر أول خط إنتاج لإعادة تدویر عبوات الكرتون المستخدمة، بطاقة إنتاجیة تصل إلى ٨٠٠٠ طن سنویًا، ما یعكس التوجه نحو تعزیز قدرات إعادة التدویر فى البلاد. فلمَ لا نأمل بمزید من التوسع فى الاستثمار بهذا المجال؟
بالطبع توجد تحدیات على رأسها تكلفة البنیة التحتیة، فعلى الرغم من الفوائد المحتملة، تواجه مصر تحدیات تتعلق بتكالیف إنشاء بنیة تحتیة متكاملة لإدارة المخلفات، بالإضافة إلى الحاجة لتشریعات داعمة وتوعیة مجتمعیة.
ویمكن لمصر تصدیر المواد القابلة للتدویر، مثل البلاستیك عالى الجودة أو المعادن مثل الألومنیوم والنحاس إلى الأسواق الدولیة التى تتطلب هذه المواد، وهو أمر يحتاج لمزيد من دعم منظومة التصدير بصفة عامة.
ويحتاج الأمر كذلك إلى دعم الابتكار والشركات الناشئة، عبر دعم رواد الأعمال لإنشاء شركات ناشئة تهدف إلى جمع وفرز النفایات وإعادة تدویرها، ما یسهم فى خلق فرص عمل جدیدة وتحقیق أرباح. ویمكننا أن ندعم هذه المشروعات مادیًا بما لا یثقل كاهل الدولة، عن طريق خفض الضرائب الخاصة بها، وتیسیر قروض لها بفوائد أقل من المتعارف علیها فى السوق.
ومن وسائل الدعم الأخرى أيضًا: الدعم التقنى عن طریق توفیر برامج تدریبیة حول إدارة النفایات والفرز والتقنیات المستدامة، والدعم الإدارى عن طریق تبسیط الإجراءات، وتقلیل البیروقراطیة لتسجیل الشركات والحصول على التراخیص، وتوفیر مناطق صناعیة بأسعار رمزیة للشركات الناشئة، وصولًا إلى الدعم التسویقى عن طریق فتح أسواق جدیدة لتسهیل تصدیر المنتجات المُعاد تدویرها.
وتتضمن وسائل الدعم كذلك: الترویج المحلى عن طریق حملات توعیة لدعم الشركات الناشئة، وتشجیع المستهلكین على شراء منتجاتها، إلى جانب الشراكة مع المؤسسات الكبرى، مثل عقد شراكات مع الحكومة عبر عقود لجمع النفایات من المدن والمناطق السكنیة، وشراكات مع القطاع الخاص بتوفیر النفایات من المصانع الكبرى لإعادة التدویر.
كما تتضمن تسهیل الوصول إلى التكنولوجیا بتسهیل شراء واستئجار معدات إعادة التدویر بأسعار مدعمة، وصولًا إلى توفير مستشارین لمساعدة الشركات على تحسین كفاءتها، فضلًا عن عقد شراكات للقطاع الخاص مع الشركات الكبرى لتمویل مشاریع إعادة التدویر، أو الشراكة مع الحكومة لتطویر البنیة التحتیة اللازمة.
ما الفوائد المتوقعة على الجانبین البیئى والاجتماعى من تطبیق سیاسة إعادة التدویر؟
بیئیًا، يأتى الحد من التلوث على رأس هذه الفوائد، ففصل القمامة یسهم فى الحد من النفایات المتراكمة فى الشوارع والمناطق العشوائیة، ما یقلل من تلوث التربة والمیاه الجوفیة.
وتسهم زیادة فرص إعادة التدویر فى تقليل الاعتماد على مكبات النفایات. كما أن فصل النفایات العضویة عن البلاستیكیة والزجاجیة والورقیة یزید من فرص إعادة التدویر. ويقلل التخلص السلیم من النفایات العضویة من انبعاثات غاز المیثان الناتج عن التحلل العشوائى.
أما العوائد الاجتماعیة، فإن تطبیق هذه الاستراتیجیة یتطلب حملات توعیة، ما یعزز الثقافة البیئیة لدى المواطنین، مرورًا بتحسین الصحة العامة، لأن التخلص الآمن من النفایات یقلل من انتشار الأمراض الناتجة عن التلوث، فضلًا عن تنمیة المجتمعات المحلیة عبر إنشاء مشروعات مجتمعیة لإدارة النفایات، ما یزید من التعاون المحلى.
هنا برلين: قوانين صارمة تُلزم الجميع بالفصل من المنبع.. بنية تحتية ملائمة.. وعقوبات على المخالفين
لدى ألمانيا نظام متكامل لفصل القمامة، يتم فيه فصل القمامة من المنبع إلى فئات محددة: «ورق- زجاج- بلاستیك- نفایات عضویة- نفایات غیر قابلة للتدویر». ویمكن لمصر اعتماد نظام مشابه مبسط یناسب الوضع المحلى.
وتعتمد ألمانيا على قوانین صارمة تُلزم المواطنین والشركات بفصل القمامة، مع فرض غرامات على المخالفین. هذا إلى جانب توافر البنیة التحتیة الملائمة لعمل المنظومة عبر الاستثمار فى إنشاء حاویات منفصلة ومرافق إعادة تدویر متطورة. أضف إلى ذلك مبادرة الحكومة الألمانیة بتنفيذ حملات توعیة شاملة لتعلیم المواطنین كیفیة فصل القمامة، وهو ما تحتاجه مصر لتعزیز الالتزام المجتمعى.
وهناك عوامل عدة أسهمت فى نجاح هذه التجربة الألمانیة كما يلى:
– الرهان على الزجاجات البلاستیكیة: فى ألمانیا، یدفع الفرد ودیعة صغیرة عند شراء زجاجة بلاستیكیة، ویمكنه استردادها عند إعادة الزجاجة إلى مراكز جمع مخصصة. هذا النظام یمكن تطبیقه فى مصر لتشجیع إعادة التدویر وزیادة العوائد.
– التكنولوجیا المتقدمة: استخدام ماكینات فرز النفایات التلقائیة التى تفصل المواد حسب نوعها یمكن أن یساعد فى تحسین الكفاءة وتقلیل تكلفة العملیة.
– إمكانیة بیع الزجاجات الفارغة: عبر وضع ماكینة أمام كل سوبر ماركت لشراء هذه الزجاجات، مقابل مبالغ مالية محددة، ما یشجع الأفراد على الاستثمار فى ذلك. ويحقق قطاع إعادة التدویر فى ألمانيا عائدات تُقدر بملیارات الیوروهات سنوًیا، مع تجاوز نسبة إعادة التدویر هناك ٦٠٪ من إجمالى النفایات، مقارنة بنسب أقل بكثیر فى مصر.
فى نهایة هذه السطور، نؤكد أنه مع تبنى نظام فعال لفصل النفایات فى مصر، فإن المشهد الذى رأیته فى ذلك الیوم بالمعادى لن یتكرر. یمكن أن یتحول العمل فى جمع النفایات من مصدر ألم ومعاناة إلى مهنة ذات قیمة، تضمن حیاة كریمة للعمال، وتقلل من الأخطار التى تواجههم یوميًا.
من خلال تشجیع المواطنین على فصل القمامة من المصدر، وتوفیر البنیة التحتیة اللازمة لذلك، ستقل الجهود العشوائیة والمرهقة التى یبذلها هؤلاء العمال. كما أن الاستثمار فى مشاریع إعادة التدویر یمكن أن یفتح آفاقًا جدیدة لتشغیل الشباب وتحقیق عوائد اقتصادیة كبیرة، تُستخدم لتحسین ظروف العمل لهؤلاء الأفراد، من توفیر الأدوات الواقیة إلى التأمین الصحى والاجتماعى.
إعادة التدویر لیست مجرد حل بیئى، بل وسیلة لإعادة الاعتبار لمن یكدّون یومیًا وسط النفایات من أجل رزقهم. تخیلوا مصر أكثر نظافة وعدلًا، حیث لا یُضطر أى شخص إلى مد یده داخل أكیاس القمامة لیواجه خطر الزجاج المكسور أو غیره. بدلًا من ذلك، سیكون لكل عامل دوره المنظم والمستقر فى منظومة تجعل من النفایات ثروة وطنیة.
بهذا الشكل یمكن أن تكون مصر نموذجًا لدول العالم النامى فى تحویل أزمة النفایات إلى فرصة اقتصادیة واجتماعیة، تحقق حیاة كریمة للعمال وتحمى أرواحهم، وتجعل البیئة مكانًا أفضل للجمیع.
تعليقات