في تونس التي أشعلت الشرارة، في مصر التي هتفت للخبز والكرامة، في ليبيا وسوريا واليمن، حيث امتزج الحلم بالركام، لم يكن الاغتصاب السياسي مجرد خطأ عابر، بل كان عقيدة حاكمة.
أُجهض الربيع لا بفعل الثورات، بل بفعل الخديعة الكبرى، حين تواطأت أنظمة ومعارضات وسماسرة على وأد الحرية وبيع الأوطان قطعةً قطعة. أصبح اغتصاب الأوطان فعلاً يوميًا، لا يحتاج إلى مداهمات ليلية، ولا إلى شهود عيان؛ بل يمارس أمام الجميع، على قارعة الطريق، في وضح النهار، بلا خجل أو ستر.
في عالمنا العربي، لم تُختزل كلمة “الاغتصاب” فقط في الجسد، بل سُرقت روحها، فغابت عن ميادين السياسة والعدالة والكرامة. اغتصاب السلطة، اغتصاب الثروة، اغتصاب الحرية، كلها مفردات مغفلة في القاموس الشعبي، لكنها قائمة كجبال من صمت وموت بطيء. الشرف لم يعد مفهوماً أخلاقياً، بل عباءة تُستخدم لتغطية عورات الفساد والطغيان. كم من نظام غسل عاره بجسد امرأة، بينما ترك الوطن مستباحًا لليلٍ بلا قمر، وسماء بلا نجاة؟
نعيش في بيئة مغتصَبة من أساسها، حيث تصبح الأوطان سجناً كبيرًا، والمواطن مجرد رقم في بطاقات تموينية أو سجلات أمنية. يمشي الرجل وهو يحصي عدد الأيام التي لم يُذل فيها، وتخشى المرأة الطريق لا من الذئاب، بل من أشباه الذئاب في الزي الرسمي. الفقر والمرض والتلوث والخوف وانعدام الأمل.. كلها أدوات اغتصاب لا يُعاقب عليها القانون، بل ترعاه السلطة وتحرسه الدساتير.
لماذا نحصر العار في الجسد؟ لماذا لا نراه في تعليم منهار، ودواء مفقود، وشارع مليء بالنفايات؟ لماذا نجرّم الفقر إذا ظهر على جسد امرأة، ولا نجرّمه إذا تمثّل في سياسة ممنهجة تسرق لقمة العيش وتكمم الأفواه؟
إن شرف المرأة لا يُحمى فقط بتجريم الاعتداء عليها، بل بتجريم العوز والذل والرعب اليومي، بتجريم الفساد السياسي والاقتصادي، وبتجريم كل بيئة تصنع الضعف وتفرخ الاستغلال.
الكذب السياسي، ذلك الفن الأسود، هو أقذر أنواع الاغتصاب. إنه انتهاك للوعي، وخيانة للأمل، وجريمة ضد الإنسانية. لم يغفر الإسبان لرئيس وزرائهم كذبة واحدة حول تفجيرات مدريد، فأسقطوه. أما نحن، فنغرق في بحر من الأكاذيب حتى صار الصدق نشازًا، والشفافية جريمة. الكذب السياسي لا يأتي وحده، بل بصحبة جيش من النذالة والخيانة والنفاق، حتى يغدو الكذاب أخطر من السارق والقاتل، لأنه يجمع كل الرذائل بتواطؤ وسبق إصرار.
في هذا العالم، لا تخرج النساء للثأر من مغتصبي الوطن، ولا يخرج الرجال من صمتهم لأن الطغيان نجح في جعل القهر عادة يومية. المواطن العربي لا يمشي، بل يزحف من يأس إلى يأس. من لا يجد دواءً، من لا يملك مأوى، من يموت نفسياً أمام واجهات المتاجر، من يبتلع غضبه كل صباح… هؤلاء جميعًا مغتصبو الشرف، لا لأنهم أذنبوا، بل لأن السلطة اغتصبت فيهم القدرة على الحياة.
في مدننا المزدحمة بالضجيج، لا تسمع سوى صمت القهر. صوت العربة لا يغطي على صدى الخوف. لا أحد يثق بأحد. المواطن يخشى شرطياً أكثر مما يخشى لصًا. والمستقبل، مجرد مرآة مكسورة نحدق فيها كل يوم فلا نرى إلا وجوهنا المكسورة.
الشرف الحقيقي في مجتمعاتنا لم يعد له مكان. لا في القانون، ولا في الخطاب السياسي، ولا في الإعلام. إنه شرف مهدور في الأزقة، في المستشفيات المتهالكة، في المدارس المنسية، في عيون الأمهات اللواتي لا يعرفن إذا كنّ سيجدن لبنًا لأطفالهن غدًا.
الحكومات الظالمة، كما قال الحكيم الصيني، أخطر من الذئاب. لأنها لا تكتفي بالافتراس، بل تمارس جريمتها باسم الشعب، باسم الوطن، باسم الله أحيانًا. تحترف القتل بزي الرحمة، وتبيع الكرامة بأقراص مهدئة من إعلام وأغاني وأناشيد وطنية. تحترف غسل العار من المكان الخطأ، وتترك البلد عارياً حتى من اسمه.
كفانا خجلاً من الكلمات، كفانا دفنًا للحقائق تحت عباءات بالية. لنتوقف عن اختزال الشرف في غشاء، والعار في جسد. إن من لا يجد سقفًا، من لا يملك رغيفًا، من لا يأمن طريقًا، هو مغتصب الشرف. وإن من يحكم بلا رحمة، ومن يشرّع للظلم، ومن يبرر الاستبداد، هو عار هذا الوطن.
ليكن حديثنا عن الشرف حديثًا عن الحق، والحرية، والكرامة. عن الهواء النقي، والخبز النظيف، والمستقبل الممكن. فربما ننجو من هذا الاغتصاب الطويل إذا ما قررنا أخيرًا أن نُعرّي الجريمة، ونكسر صمت الضحايا، ونكتب شهادتنا قبل أن يختفي الضوء تمامًا من هذا النفق العربي الطويل.
اقرأ أيضًا: طارق العوضي يكتب: “سيناء.. حين انتصر الوطن بالسلاح والحكمة”
تعليقات