طارق العوضي يكتب: ما بين الحوار الوطني وقانون النواب.. بضاعة أتلفها الهوى

من المؤسف أن يتبدد الأمل سريعًا في تجربة الحوار الوطني، تلك المبادرة التي بُنيت عليها آمال عريضة بإمكانية استعادة شيء من التوازن المفقود في المشهد العام، بعد سنوات من الانغلاق السياسي وتآكل المجال العام. لقد جاء الحوار بدعوة من رأس الدولة نفسه، رئيس الجمهورية، مترافقًا مع وعود صريحة بأن توصياته ومخرجاته ستكون محل التقدير والتنفيذ، لا الحفظ في الأدراج. ولكن ما حدث حتى الآن لا يدل على أدنى رغبة في تحويل هذا التعهد الرئاسي إلى واقع ملموس.

مرّت أشهر طويلة منذ إعلان نتائج الحوار، وصدر تقريره النهائي، وخرج المتحدثون يشيدون بمناخ النقاشات والتنوع، لكن كل هذا لم يترجم إلى سياسات أو تشريعات أو حتى مؤشرات تغيير على الأرض. ظلت القوانين المقترحة، والتوصيات المتعلقة بتقليص الحبس الاحتياطي، وتحرير المجال الإعلامي، وتوسيع المشاركة السياسية، حبيسة الوثائق، لا تجد من يحملها إلى البرلمان، ولا من يتبناها في دوائر القرار. وكأن الدولة اكتفت بمجرد تنظيم الحوار على نحو احتفالي، دون أن ترى فيه التزامًا سياسيًا أو مسؤولية أخلاقية.


إن غياب التنفيذ لا يمكن اعتباره مجرد تعثر بيروقراطي أو سوء ترتيب للأولويات، بل هو في جوهره إشارة سلبية تعيد إلى الأذهان كل الشكوك التي أحاطت بالحوار منذ البداية. فقد خشي كثيرون من أن يكون الغرض من إطلاقه تجميل المشهد، لا إصلاحه، وها هي الأيام تثبت – للأسف – أن هؤلاء لم يكونوا على خطأ. وعد الرئيس علنًا بأن توصيات الحوار ستكون محل تنفيذ، لا محل نقاش جديد، ومع ذلك لم يتحرك شيء. وهذا يطرح سؤالًا جوهريًا:

إذا كانت أعلى سلطة في الدولة تعهدت، ولم يُنفذ شيء، فأين مواضع العرقلة؟ ومن الذي يملك حق الفيتو ضد إرادة معلنة للرئيس نفسه؟

إن استمرار تجاهل مخرجات الحوار الوطني لا يضعف فقط الثقة في المؤسسات، بل يضرب في الصميم إمكانية بناء عقد اجتماعي جديد. فالدولة التي تدعو إلى الحوار، ثم لا تأبه بنتائجه، ترسل رسالة مدمرة فحواها أن الكلام لا قيمة له، وأن المشاركة مجرد واجهة شكلية، وأن من يحلمون بإصلاح سلمي تدريجي يعيشون في الوهم. وهذه ليست مجرد أزمة سياسية، بل أزمة أخلاقية أيضًا، تمس علاقة المواطن بدولته، والمثقف بضميره، والسياسي بمبرر وجوده.

إن الطريق إلى التغيير لا يكون بالوعود، بل بالفعل.


والمشاركة ليست احتفالًا موسميًا، بل التزام مستمر.

وإذا كانت السلطة جادة فعلًا في رغبتها بإشراك الجميع في صياغة المستقبل، فعليها أن تبدأ بخطوة بسيطة ولكنها فارقة: تنفيذ ما خرجت به لجان الحوار الوطني، دون تأخير أو مماطلة أو تحريف. وإلا فإننا أمام تجربة أخرى من تجارب التجميل السياسي، لا الإصلاح الحقيقي.

. .tgtn

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *