مظهر شاهين يكتب: مصر والقضية الفلسطينية.. دعمٌ لا ينقطع وعهدٌ لا يُنقَض

لم تكن فلسطين يومًا بالنسبة لمصر مجرد جغرافيا مجاورة أو قضية طارئة في أجندة السياسة، بل كانت وستظل قضية وجود ومصير، وطنًا جريحًا في وجدان كل مصري، تُسكب من أجله الدماء، وتُبذل لأجله الجهود والمساعي، وتُتخذ في سبيله المواقف الصلبة التي لا تنتظر مقابلًا. فمنذ نشأة القضية، احتلت فلسطين مكانتها الثابتة في وجدان الدولة المصرية وشعبها، باعتبارها جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، وجسر العزة الذي لا يمكن أن يكتمل استقلال العرب بدونه.

 


تعود أولى صفحات هذا التاريخ إلى عام 1948، حين اندلعت حرب فلسطين بعد إعلان قيام الكيان الصهيوني، فكانت مصر في طليعة الجيوش العربية التي دخلت المعركة دفاعًا عن أرض فلسطين وشعبها. خاض الجيش المصري معارك بطولية، من أشهرها معركة “الفالوجة”، التي حوصر فيها الضباط والجنود المصريون لأكثر من أربعة أشهر، ورفضوا الاستسلام رغم نفاد الإمدادات، في ملحمة تجسدت فيها شجاعة الجندي المصري، وكان من بين المحاصَرين الضابط الشاب جمال عبد الناصر، الذي قال لاحقًا: “في الفالوجة تعلمت أن الخيانة لا تهزم الحق، وأن الصبر يصنع النصر”.

 

لم تكن حرب 1948 سوى بداية لمسيرة نضال طويل، تجددت ملامحه في عدوان 1956 حين شاركت إسرائيل بريطانيا وفرنسا في الهجوم على مصر بعد تأميم قناة السويس. آنذاك، كشفت مصر عن عمق العلاقة بين المشروع الصهيوني والاستعمار الغربي، وواجهت العدوان الثلاثي ببطولة شعبية ومقاومة وطنية جعلت من بورسعيد رمزًا للصمود. ولم تنقطع مصر عن دعم الفلسطينيين خلال تلك السنوات، بل واصلت احتضان المقاومة، ووفّرت لها الدعم السياسي والإعلامي والميداني.

 


وفي العدوان المفاجئ في يونيو 1967، ورغم ما خلّفه من ظرف عسكري صعب وتحديات جسيمة، لم تتخل مصر عن دورها، بل أطلقت حرب الاستنزاف التي استمرت حتى 1970، وسقط خلالها مئات الشهداء المصريين وهم يذودون عن الأرض والعِرض، في الوقت ذاته الذي كانت مصر تفتح معسكراتها لقيادات الفصائل الفلسطينية، وتقدم كل أشكال الدعم لهم. ولم تمضِ سنوات حتى جاء يوم العبور في السادس من أكتوبر 1973، حيث خاض الجيش المصري معركته الكبرى ضد الاحتلال الإسرائيلي، محققًا نصرًا عسكريًا هزّ أسطورة التفوق الإسرائيلي، وفتح الباب أمام استعادة الحقوق.

 

ولم يكن نصر أكتوبر نصرًا لمصر وحدها، بل شكّل لحظة فارقة في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، أعادت للعرب الثقة، وللقضية الفلسطينية زخمها. وأكد الرئيس أنور السادات في خطابه أمام الكنيست عام 1977، أن السلام لا يمكن أن يتحقق ما لم تُحل القضية الفلسطينية، قائلًا: “جئتكم حاملاً رسالة سلام، ولكنني لن أفرط في حقوق الفلسطينيين… ليس هناك سلام حقيقي دون تسوية عادلة لقضيتهم”. وعلى هذا الأساس، أصرّ السادات على إدراج بند صريح في اتفاقية كامب ديفيد يُقرّ بحق الفلسطينيين في الحكم الذاتي كخطوة نحو الدولة.

 


تواصل الدور المصري على النهج نفسه في عهد الرئيس حسني مبارك، الذي لم يتزحزح عن دعم القضية الفلسطينية، رغم التحديات والضغوط. وكان يؤكد في خطاباته الرسمية أن “القضية الفلسطينية هي قضية أمن قومي لمصر، ولن نقبل بتصفيتها بأي شكل من الأشكال”. وفي عهده، رعت مصر العديد من مفاوضات التهدئة والمصالحة، واحتفظت بعلاقات متوازنة مع جميع الأطراف الفلسطينية، وكانت دائمًا الصوت الحكيم الذي يسعى إلى جمع الكلمة الفلسطينية على هدف التحرير وبناء الدولة.

 

وتتجدد هذه المسيرة القومية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي تبنّى سياسة تجمع بين الدعم الإنساني والسياسي للفلسطينيين، والحفاظ على الأمن القومي المصري في آنٍ معًا، بمنهجية الدولة التي تزن الأمور بمسؤولية وشفافية. ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2017، وجّه نداءً صريحًا قائلًا: “إن حل القضية الفلسطينية يفتح الباب لواقع جديد في المنطقة… ويعيد الأمن والاستقرار، وعلى إسرائيل أن تدرك أن أمنها لا يتحقق إلا بإقامة الدولة الفلسطينية”.

 

وفي مايو 2021، ومع اندلاع موجة العدوان على غزة، لم تتأخر مصر عن إطلاق مبادرة لوقف إطلاق النار، وفتحت معبر رفح أمام الجرحى والمصابين، ووجه الرئيس السيسي بإرسال مساعدات عاجلة إلى القطاع المحاصر، مؤكدًا أن “غزة جزء من وجداننا، وأمنها من أمننا”.


 

وكان الموقف المصري أكثر صلابة في خضم أحداث غزة 2023–2024، حين رفضت مصر بشكل قاطع التهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء، وهو السيناريو الذي حاولت بعض الأطراف الدولية تمريره تحت غطاء “الإغاثة” أو “الحماية”. لكن الرئيس السيسي كان حاسمًا حين قال خلال قمة بغداد: “لن نسمح بتكرار نكبة جديدة على أرضنا… من يريد حماية الفلسطينيين فليوقف العدوان عنهم، لا أن يُخرجهم من وطنهم”. كانت هذه الرسالة صريحة إلى كل من يعنيه الأمر: لا وطن بديل، ولا حل على حساب مصر.

 

وفي موازاة ذلك، استمرت مصر في القيام بدور الوسيط النزيه والراعي الوطني للحوار الفلسطيني – الفلسطيني، حيث استضافت عشرات جولات المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وبقية الفصائل، وسعت بكل طاقاتها إلى رأب الصدع وتوحيد الصف الفلسطيني، إيمانًا منها بأن قوة الموقف لا تأتي إلا من وحدة الكلمة، وأن الانقسام لا يخدم إلا الاحتلال.

 

ورغم هذه التضحيات السياسية والميدانية والإنسانية، لا تخلو الساحة من بعض الأصوات التي تشكك في الموقف المصري، وتقلّل من شأنه، متناسية أن مصر قدّمت في سبيل فلسطين أكثر من مئة ألف شهيد في الحروب والمعارك، وتحملت تبعات أمنية وسياسية واقتصادية جسيمة، لا لشيء إلا لأنها آمنت أن نصرة فلسطين واجب لا يُساوَم عليه. وهنا نقول: إن من لم يقدم دمًا، ولم يتحمل عبئًا، ليس من حقه أن يزايد.

 

ولا يمكن إغفال دور الفن المصري والإعلام والدراما في ترسيخ القضية الفلسطينية في وجدان الشعب، فقد كانت الأغنية الوطنية حاضرة دائمًا، من صوت أم كلثوم وهي تشدو “القدس لنا”، إلى أفلام ومسلسلات وثّقت المجازر الصهيونية، وقدّمت صورة الإنسان الفلسطيني كرمز للنضال والصمود، ما شكّل وعيًا جماهيريًا راسخًا لا يزال يتجدد عبر الأجيال.

 

ولم يكن دعم مصر للقضية الفلسطينية مقتصرًا على الساحات السياسية والعسكرية فحسب، بل امتد إلى ميادين التعليم والتنشئة الوطنية، حيث حافظت المناهج الدراسية المصرية – في مختلف مراحلها – على حضور القضية الفلسطينية كقضية مركزية في وعي الطالب المصري. فدُرّست خرائط فلسطين كاملة دون تجزئة، وعُرّف الطلاب بحق العودة، وبمجازر الاحتلال من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا، وتعلّموا أن القدس هي العاصمة الأبدية لفلسطين، وأن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

 

كما غُرِس في وجدان النشء أن العروبة ليست شعارات، بل روابط دم ومصير، وأن القضية الفلسطينية ليست شأنًا فلسطينيًا صرفًا، بل جرحًا عربيًا مفتوحًا لا يندمل إلا بالتحرير والكرامة. وظلت المواد التاريخية والتربوية تذكّر الأجيال الجديدة بمواقف مصر في الحروب والمفاوضات، وتُبرز عدالة القضية، وترسّخ الموقف الرسمي والشعبي الرافض للاحتلال والتطبيع غير المشروط، بما جعل من الطالب المصري حاملًا لفلسطين في قلبه قبل أن يقرأ عنها في كتابه.

 

وفي هذا الإطار، لم تكن مصر يومًا غائبة عن دورها القومي والديني، فهي الحارس الأمين للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، والدرع الواقي لقضايا الأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ولطالما أكدت القيادة المصرية، قولًا وفعلًا، أن الدفاع عن القدس ليس واجبًا فلسطينيًا فقط، بل فريضة عربية وإسلامية، وأن أي مساس بالمقدسات هو عدوان على الكرامة العربية جمعاء، لن تقبل مصر السكوت عليه أو السماح بتمريره، تحت أي غطاء كان.

 

وهكذا، فإن موقف مصر من فلسطين لم يكن يومًا موقفًا عابرًا، بل عهدًا راسخًا لا يُنقض، ودعمًا أصيلًا لا ينقطع، تأسّس على مبدأ أن القضية الفلسطينية ليست مسؤولية جغرافيا، بل أمانة تاريخية وواجب قومي وأخلاقي. واليوم، كما الأمس، تقف مصر بقيادتها وشعبها في صف الحق، وتحمل لواء السلام العادل، وتذود عن الكرامة الفلسطينية بكل الوسائل، وتصدح في المحافل الدولية بصوتٍ لا يخضع للمساومة، ولا يرضى بغير الحرية حلًا، ولا بغير القدس عاصمة.

 

وإن كان للحق أن يتكلم، فليشهد التاريخ أن مصر كانت، ولا تزال، عماد العروبة، وملاذ القضية، وصوت الضمير في زمن العتمة.

. .t4ie

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *