مَسار الصُّورة ومَآلاَت النَّظْرة عند بنْكْراد - بلس 48

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تقديم:

يُعد كتاب الصورة ومآلات النظرة، لسعيد بنكراد، حصيلة سلسلة من المحاضرات التي ألقاها في أكاديمية المملكة المغربية في فبراير 2023. وهي مؤسسة علمية وأكاديمية التي لا تقوم على الشهادات الجامعية ولا تُسلِّمُها، على غرار مؤسسة كوليج دوفرانس، حيث يكون مِقياس وُلوجها الوحِيد، ومُسوّغ إلقاء الدّروس فيها هو العلم ولا شيء سوى العلم، ومُراكمته والحُجّية فيه. ذلك، ما جسّده مدير معهد الفنون في الأكاديمية، مع مراعاة الفوارق اللازمة بين المؤسستين، وبين الباحثين السميائيين، لمّا دعا سعيد بنكراد ليُحاضر “حول الصورة أمام مجموعة من الطلبة والطالبات كانوا جميعهم يُعدُّون رسائل في ميدان الجماليات، في الإشهار والفوتوغرافيا والسينما والفنون التشكيلية”(ص16).

وقد كانت الدعوة مناسبة لتأليف كتاب عن على الصورة ومآلات النظرة، بسط فيه الباحث، على امتداد فصول الكتاب الأربعة وملحقاته الموازية، وبعدما مقدمة، على عادات كتبه الأخرى، باذخة في تأطير موضوع الكتاب، الحديث عن الصورة وتاريخها وأشكالها ووظائفها عند الإنسان في مواجهة ذاته والآخر والعالم من حوله، وما يَقِيه شَرّ الواقع وتحدياته، وصروف الزمن وإكراهاته، من خوف وقلق وموت… وما يُنعشُ آمال الإنسان في الحرية والجمال والمُمتعة… ذلك بعض ما سنتطرق إليه في مسار ما سيأتي.

أولا-عن الغْرافيات أو عن نشأة اللغة والصورة والكتابة

انطلق سعيد بنكراد من فرضية قائمة على دور الغرافية، باعتبارها رسوما وخطوطا وخربشات تَركها الإنسان على الصخور وجدران الكهوف والرمال وغيرها في نشأة اللغة والإيماءة والكتابة والفن والصورة. وجميعها علامات على حضور الإنسان في الكون وما استوطن وجدانه. فالصورة كما اللغة وسائل تعبيرية يعتمدها الإنسان، نتيجة انفصاله عن كائنات محيطه، ووسيلة للنظر إلى ما تسرب إلى ذاته والعالم من حوله. فما أبصرته عين الإنسان وأعادت صياغته في اللغة غير منفصل عمّا خطته يده قبل ذلك من خربشات. فما رسمه الإنسان على جدران الكهوف، وجميع ما نقشه على الصخور، عبارة عن تمثيلات بصرية مجردة، فردية وجماعية، وخبرات أودعها في رموز مادية قابلة للتداول خارج إكراهات اللحظة العارضة للذاكرة. إنها بهذا المعنى تُحول مواد الكون من كيانات خرساء بلا معنى إلى علامات دالة، أو من أدوات نفعية إلى واقعات ثقافية. ذلك ما يؤكده بنكراد قائلا: “إن الأصل في الحياة نظرة، فقبلها لم يكن الوجود سوى كتلة من المثيرات البصرية تتحرك أمام العين دون أن تكون قادرة على تبيّن إيقاع الحياة فيها” (ص24).

تبقى الصّورة أمّ العَلامات، حيث تتصرف بحرية في المادة التي تُعيد العين صياغتها. فعندما بدأ الإنسان يرسم إيقاعات صوته على جدران الكهوف والصخور إنّما يفعل ليعطي صورة عن أحاسيسه ووجدانه، تعجز الكلمات عن التعبير عنها. ذلك ما يفسر العلاقة الوطيدة بين اللغة والفن التصويري، أكثر مما كانت مع الكتابة نفسها. فقد كان الفن التجريدي في بدايته مجرد تخطيطات ومحاكاة لكائنات في الطبيعة كانت تثير الرُّعب فيه، وتثير الدهشة عنده. لهذا كان الإنسان يخط بيده ليعبر عن قَلقِه تجاه الطبيعة وظواهرها الغامضة عبر أشكال لبناء واقع تدركه العين باعتباره حاصل “تشكيل” ما يوده الفنان من عمله. (ص39).

وقد اعتمد بنكراد هذه المرة، وعلى غير عادات فيما سبق أن كتب ونشر، هندسة مبتكرة، تقوم على تخصيص ملحق خاص لكل فصل ليكون مجالا خاصا لتحليل تطبيقي للصورة. هكذا، ملحق، فضاء التيه، كان مدارا تطبيقيا للوحة فنية للفنان المغربي عبد الحفيظ مديوني، باعتباره من جهة روائيا وقصاصا من مدينة بركان لم ينل حقه في المتابعة والاهتمام. فالسميائيات المناضلة لسعيد بنكراد تقتضي ضمن ما تقتضيه الاحتفاء بالإنسان، وبالأحرى الإنسان الفنان، خاصة إذا جاء من الهامش، بكفاءات إبداعية خلاقة تُصور الشرط الإنساني في لحظات الضياع والتيه في عالم بلا معالم. وهو ما جعل سعيد بنكراد يخص لوحته الفنية بمساحة هذا الملحق، وهو يتأملها، ويفكك مواد بنائها، ويعيد تركيبها، وبناء معنى/معان ضيعه الإنسان بين رغبة الإقبال على الحياة وحالات الفناء التي تطارده. تلك التفاتة أكاديمية راقية ومبادرة فُضلَى من ابن البلدة إلى ابن البلدة تكريما للفنان واحتفاء به، خاصة وأن اللوحة تحتفي بالإنسان بلا ملامح ولا هوية لكائنات من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، ولكن عبر خُطاطات ولَطخات ونُقط وأشكال حُرّة ومجردة تجعل المشاهد أمام كائنات أو قُل أشباحَ تحتفي ب” القلق والخوف والرغبة والحلم” (ص76)، وتعيش في أجواء جذب بين حالات لون بُنّي قاتم في اللوحة واحمرار شمس هاربة وآفلة تستجدي الحياة.

لم يقف سعيد بنكراد عند الصورة ومآلات النظرة فيها عند الصور الغرافية وأشكالها بين الإبصار والنظرة، بل تطرق كذلك، وعبر مسار تطور الصورة عند الإنسان العاقل، إلى الصورة الفنية التشكيلية بأبعادها الجمالية، كما ستضح لاحقا.

ثانيا-الصورة الفنية والمتعة الجمالية وميلاد الإنسان

استعان سعيد بنكراد بالمتاح السميائي، سواء في بُعده التأويلي أو في بُعده الثقافي، من منطلق أن العالم في اللغة أوسع وأرحب مما هو عليه في حالته الخام (الصورة، ص85). فالصورة بتعدد مكوناتها وسيلة لمخاطبة العين بالأشكال والألوان والوِضعات وتصميم اللقطات، مما يطرح سؤال الفهم والقراءة وتحويل الانفعال البصري إلى مفاهيم تخبر عن مضمونها.

على هذا الأساس، تقوم النظرة على تخليص المرئي من الصورة وإدراجه ضمن علاقة. ويقدم سعيد بنكراد في هذا المقام مجموعة من الشواهد، وبكثير من النزوع البيداغوجي، خاصة وأنه يتوجه إلى الطلبة والطالبات ومن في معناهم ممن يُحضّرون رسائلهم الجامعية، وفي مقام علمي وأكاديمي بحرمة علمية مُقدرة (ص16 من الصورة)، يتعلق الأمر بالفرس، إذ يتحول في الصورة إلى ظاهرة في العين تستحضر تجربة سابقة عليه، بعيدا عن حقيقته في الواقع. بعبارة أخرى فصورة الفرس، مخطوطا أو غير مخطوط، لا تحيل على الفرس بما هو فرس، بل تحيل على “الرابط بين الوعي والموضوع”. كذلك الأمر، وفي المسار نفسه سلّة الفواكه في لوحة كارافاج. فهي صورة غير مهمة في ذاتها، بل ما يهم فيها مُضافَاتها، لونها وشكلها، وهي التي تستوقف العين ولا تشدّها، بل تحفز النظر في معنى يستقر في ذاكرة الناظر وما تثيره فيه من انفعالات لا في كينونته في الطبيعة المباشرة. ذلك ما تشهد له أيضا قراءة هايدغر كما أوردها سعيد بنكراد للوحة حذاء فان غوغ. فالحذاء في وجوده المادي غير الحذاء لمّا ينتقل عبر ريشة الفنان إلى لوحة تشكيلية، يكون فيها خلاصة تجربة إنسانية، بلغة بورس، استعادتها عين الفنان خارج كل سياقات الاستعمال النفعي، وصارت موضوعا فنيا. (انظر كتابه، التأويل وتجربة المعنى، ص108-109- 119 وما بعدها).

وفي هذا الأفق وتتميما له فقد خصص بنكراد ملحقا لصورة إشهارية من نوع الإشهار الجمالي. وهي صورة فوتوغرافية من طبيعة إشهارية لامرأة تحضر أمام العين، وضمن وضعية أمامية، ولكن بدون رأس وبالتالي بدون وجه. وتلك مفارقة أولى، والمفارقة الغريبة الثانية، أنها امرأة زنجية، شديدة السواد، بصدد إرضاع طفل ناصع البياض، وثدياها عاريتان، وعلى كتفيها مئزراً بلون أحمر أرجواني، في غياب واضح للمُنتج. مما يوحي بعبثية الصورة. “فلا رابط بين امرأة سوداء ورضيع أبيض في عين تعلمت الفصل بينهما في الثقافة والبيولوجيا”(ص144). فألوان الصورة مستفزة للعين، ولا جامع بينها، سوى ما تقول الثقافة وتسجله الأهواء، وتوحي به القيم (الدينية والعنصرية).

غير أن سعيد بنكراد يُدرك خطورة الصورة الإشهارية وقوتها الضاربة في تدجين الناس والإعلاء من شأن الاستهلاك، بل وقدرتها على نزع “المواطنة” عن الإنسان وتحويله إلى آلة للاستهلاك. وربما لهذا السبب وغيره، سيُمعن النظر في الصورة الإشهارية، ويُسهب في رصد آليات اشتغالها، وكشف طرق إقناعها، ولكن عَينه على التّنبيه إلى قطيعة نوعية في الصورة وزحفها المتواصل في عصر الرقمنة، كما سيتم توضيحه فيما سيأتي.

ثالثا-في زحف الصورة بين تَدجين الإشهار ي وبُرود العالم الافتراضي وتلاشي النظرة

لقد أفلح سعيد بنكراد لما استأنس ب”عصور النظرة” التي اقترحها ريجيس دوبري، واختارها إجراء لرصد الصورة بمسار نشأتها وتطورها في مسيرة الإنسان بدءا بصورة العبادة والخضوع لها، مرورا بالصورة الفنية في قمة إبداعها وانتشائها، وانتهاء عند الصورة واكتفائها بالبيع والتسويق والتسليع عبر “أصنام جديدة”، حيث هيمنت الصورة في شقها الإشهاري وشقها الافتراضي وقد أنعشتها شبكات التواصل الاجتماعي. في هذا العصر بدأ الواقع يتراجع ويتوارى، أو يكاد تاركا المساحة الكبرى للصورة وهي تستولي على العين وتستبد بها، بل وتحتوي الإنسان وتستغرقه. وهكذا، بدأ الافتراضي يتمدد ليصبح بديلا عن الحياة الفعلية في دفئها ودفقها الإنساني. وذلك منطق النظام الرأسمالي، بأنواعه، المالي والاقتصادي، مسنودا بالعولمة ونمطيتها.

قد يكون سياق المحاضرات التي ألقاها سعيد بنكراد في أكاديمية المملكة، ومراعاة طبيعة المتلقي فيها من الطلبة والطالبات، وهم يعدون بحوثهم الجامعية، وفي الوقت ذاته يعانون خصاصا كبيرا في ثقافة الصورة، وقد أضحت كالماء والهواء، ما حفزه على تكثير الشواهد وتنويعها، وكأنه يدق ناقوس الخطر لما يهدد حرية الإنسان في اختيار ما يود اختياره. دليله الإضافي على ذلك، الوصلة الإشهارية التي تدعو النساء كما الرجال لشراء الشمبوانات التي “تساعد على التخلص من الشّعر الذي يشكو جفافا وجُعودة”. فعلا هناك يتطابق دال الوصلة(الصورة) وبين مدلولها (اشتروا الشامبوان س) (ص161)، لكن مع ما يتسلل إلى هذه الوصلة من قيم ومعرفة وثقافة تحرص المؤسسة على أن تنتقل من أم إلى ابنتها، ومن جيل إلى آخر، عَبر ما أودعه الإنسان في الألوان والأشكال والخطوط وزاويا النظر، بقصد التطبيع مع الاستهلاك، ولكن تحت غطاء ثقافي يتيح له إمكانية الانخراط في وضعيات حياتية، وأساليب عيش داخل المجتمع ووظائفه، وضمن نموذج اقتصادي بعينه.

بناء على ما سبق، تظل الصورة الإشهارية، كما خلص إلى ذلك بنكراد، بؤرة انفعالية لا تعرض على الرائي حقائق بقدر ما تساعده على تجنب النظر إلى حقيقة ذاته، كما هي في الواقع، من ثم قوتها الإقناعية. لكن مع عصر الرقمنة، وتطور شبكات التواصل الاجتماعي، وما أتاحته من سرعة فائقة في بناء الصور ونشرها، وتوفير شروط التماهي معها؛ فقد أصبح الرائي يعيش المستقبل في حاضر يُغرقه في رغبات لا تنتهي، وأصبحت الصورة الإشهارية الرقمية عابرة للذاكرة، ومنتشرة في الفضاء الافتراضي، أصبح يفرز “كائنات جديدة موزعة على أنشطة مختلفة فيها التهريج والتضليل ونشر الأباطيل وتسويغ ما لا يمكن تسويغه بمنطق العقل. مما فسح المجال أمام ما يعرف ب”فئة المؤثرين” الذين يتحركون “بحرية وسرعة” وخارج أي رقابة. إنهم فئة من المحتجين والمهرجين والهامشيين و”المُتناضلين” و”المتصحافين” (مُدّعي النضال والصحافة) الذين تحولوا إلى مؤسسات إشهارية في عوالم افتراضية دون حدود، يستدرجون الناس، على مدار الساعة في اليوتوب أو الفايسبوك، بالدعوة إلى قيم مُثلى، والتبشير بأحلام “وردية”، باستثارة انفعالاتهم ودغدغة عواطفهم، بالزّعاق والصراخ والاستهواء، وأحيانا بلعب دور الضحية واستدرار الشفقة، وأحيانا أخرى بنقد السلطة و”سَبّ” كل رموزها، وهم يستجدون لايكات، لمزيد من “الضحايا”، وفي الوقت ذاته لمزيد من المدخول المالي، وما يمكن أن يتسلل عبره من صور إشهارية مختلفة. وقد وجد هؤلاء المؤثرون، وتحت شعارات مختلفة، وانتماءات مهنية قائمة ما يزيد في تكثير المشاهدين وبالتالي المستهلكين، خاصة في فضاء افتراضي جذاب وُمغرٍ لكل أنواع الاستهلاك والإمعان فيه. ذلك مت جعل العالم الافتراضي يتوسع ويكتسح مساحات الواقعي، بل وأصبح مجالا للاستهلاك، وتحول إلى “متجر كبير” لكل المبحرين، بتبضّعون فيه ويتنافسون في اقتناء ما يشتهون من سلع وأخبار وإشاعات وفضائح واستيهامات ورغبات ومواقف، وذلك حسب ما تخطط له الغافام وتُتيحه بَرْمَاجياتها.

وقد وجد سعيد بنكراد مثالا دالا ومستوعبا لهذه الخصائص ومشخصا لتلك الخلاصات في صورة إشهارية أودعها في فضاء مخصوص، سماه الملحق، وتحت عنوان: “عالمٌ من الخبرة، مودعٌ في صندوق من الجودة”، وهو يحلل صورة إشهارية لبنك مغربي مشهور ومؤثر في الاقتصاد المغربي (بنك إفريقيا). فالصورة الإشهارية التي يستشهد بها بنكراد، تذكُر البنك، بما هو مؤسسة مالية، ولكن تسكت عن منافعه، وتتغافل عن بسط خدماته وخصائصه أو وظائفه، ولكن تشير إلى هويته الاسمية والرمزية، مكتفية بعرض إيحائي “يعد الناس بعالم يجمع بين الجودة والخبرة وإرسالية إيقونية تضع كرة أرضية في شكل بيضة في جوف محارٍ. تدل الإرساليتان معا، بأشكال مختلفة، على أن البنك يتولى بعناية خاصة لبيئتنا بما يحمي محيطنا ويحمي الأرض التي يجب أن نتركها للأجيال القادمة”(ص213).

ومن المثير أيضا في كتاب، الصورة ومآلات النظر لسعيد بنكراد، إضافة إلى بعض ما سبق، أن يخصص فصلا كاملا لصورة الوجه، وملحقا خاصا عنه بمختلف أشكاله ودلالاته؛ بل سيزيد الوقوف عنده من خلال نموذج تطبيقي راهن. يتعلق الأمر بما رسمته الفنانة نادية محفض في لحظات البحث عن خارطة هَووية، وطبيعة تواجدها في الوجدان. ذلك ما سيتم بسطه في ما يأتي.

رابعا-تجليات الوجه وأبعاده عند الإنسان: من الوجه الطبيعي إلى الوجه الرقمي

في سياق البحث في الصورة بمختلف تجلياتها، وقراءة عَديدٍ من نماذجها في التاريخ الإنساني، وفي سابقة أكاديمية في الثقافة العربية، قديمها وحديثها، على الأقل في حدود علمي، توقف سعيد بنكراد عند الوجه وأشكال حضوره، وخصص له مساحة معتبرة تزيد عن أربعين صفحة مُعتّقة، يتناول فيها الوجه “بكل الحمولات الدلالية والهوياتية التي يستثيرها في الفضاء العمومي”(ص15). وكأن الوجه امتداد للغة، وبالتالي ميزة الإنسان وحده، يعكس كينونته، ويساعد العين على استعادة أسراره النفسية وانفعالاته المجردة والمنفلتة. فلماذا الوجه في الصورة عوض غيره من مكونات جسد الإنسان؟

يجيب سعيد بنكراد، ببساطة لأن الوجه ميزة الإنسان وَحده، وما يدل عليه دون غيره من مكونات الجسد. فالوجه عنده حقيقة الروح، وبوابة عاكسة لحالات النفس من الأهواء بما هي أصل اللغات. ربما لذلك فلا وجه للحمار ولا للحصان، وباقي الكائنات غير الإنسان ما دامنا لانقرأ فيها حالاته النفسية. فالوجه واجهة للإنسان، وأكثر الأعضاء عنده عُريا فيه وفضحا لجوانيته، ولذلك فهو حمّال معانٍ، وشكل من أشكال تجلياتها، من كل أطرافه الدالة، مثل الجبهة والأنف والفم والخدان…

على هذا الأساس، وطلبا للإحاطة بالوجه ومعانيه وتجلياته، لم يترك سعيد بنكراد أمثلة في اللغات والقواميس والثقافة والأدب أو الطبيعة والأساطير أو في النصوص الدينية والأمثال الشعبية وغيرها إلا استحضرها للتأمل والتحليل، وللتمثيل والتوضيح، وتأكيد فرضياته وإقناع قرائه. فالوجه حاضر فيها بقوة وكثافة، ووحده ما يتبقّى في الذاكرة بعد نسيان باقي الأعضاء. بتعبير آخر، فإن الوجه طريقة في حضور الإنسان في عين الآخر، وفي الفضاء العمومي، بل هو ما يُحدد التصنيفات السياسية والأخلاقية والتراتبيات الاجتماعية، ويعتمدها في تصريف نوع العلاقات الاجتماعية وطبيعة الثقافة الموجهة له. وتحقيقا لاستراتيجية التواصل والتأثير انتقل سعيد بنكراد من البسط النظري إلى بسط الشواهد. هكذا، تطرق لصورة الوجه في وضعية الحجاب، أو لنقل لوجه مُحجّب. وهي لحظة اختفاء الوجه عن الأنظار لاعتبارات دينية أو ثقافية أو عقدية أو مذهبية أو غيرها. فإخفاء الوجه، من تلك الزاوية، شرط لقتل الرغبة في الجسد. لهذا يعتبره بنكراد قناعا يُظهر المفاتن ويُثير الرغبة ويظهرها أكثر مما يخفيها. وتلك مفارقة الوجه المحجب أو حتى الجسد المُحجب. وتلك مُهمة العين التي تستحضر الغائب في الوجه والمخفي فيه، وهي تعيد تركيبه. وهو الموضوع الذي قتله سعيد بنكراد بحثا ودرسا، وتقليبا في كثير من كتبه منها بالأساس، كتابه، وهج المعاني (2013).

لكن مع عوالم الافتراض وما جاءت به الرقمية، فقد استبدت شبكات التواصل الاجتماعي ووسائطها وغاب الدفء الإنساني، وأصبحت صورة الوجه ومعها المُبحرون صورا افتراضية يعجز عن التحكم فيها ومراقبة تقاسيم الوجه فيها”. ذلك ما يعكسه بجلاء ذلك الملحق الموازي الذي اقترحه بنكراد تحت عنوان، “الوجه مُمكنات التجريد المشخص”، لمزيد من تسليط الضوء على وجه /وجوه تعرضها فنانة من طينة استثنائية، تتقاطع في ريشتها الفنية مع الطب وممارسته في مستشفى عمومي بمدينة الرباط، وريشة فنانة تشكيلية “محترفة” للتشكيل ورسم البورتريهات منذ طفولتها الأولى. إنها الطبيبة والفنانة نادية محفض، وهي تعرض وجوها تُجسد مُنتهى الألم في الروح والجسد، وتكشف عن خارطة هووية تنتشر في الوجوه التي ترسمها في بورتريهاتها، وتعبر فيها عن صَرخْات “ترسم عُريا غير مرئي(الألم) في ما يمكن أن يُرى (شكل الوجه)”. إنها احتفاء بالألم بكل أشكاله، و”عودة بالوجه إلى ما قبل اللغة في الحجم الإنساني”(ص256). إن لوحات الفنانة التشكيلية لا تعرض ألما، بقدر ما تُمكن العين من التسلل إليه، وتقدير أحجامه وأقداره، كما يظهر في وجه بعينين مفتوحتين، أو من وجه فم فاغر، أو وجه بحجم رأس خصم، أو شديد الصّغر. فالفنانة تحكي حكاياتها عن المعذبين في الأرض كما تراها العين على تقاسيم الوجوه في لوحاتها. وجوه بلا هوية ولا جنس ولا انتماء، إنها وجوه كونية، وجه الإنسان، كما يمكن أن يكون إنسانا خارج محددات أخرى غير شرطه الطبيعي. (ص261).

خلاصة وأُفق

بناء على ما تقدم، واستحضارا للمنجز السميائي لسعيد بنكراد أدّعي أن كتابه، الصورة ومآلات النظرة، كتاب يُشبه صاحبه، ويَعكِسُ فلسفته في الحياة، ويَصبّ في مجرى مشروعه السميائي ويُعمّقه، ويستأنف أسئلته القلقة ويُوسعها. إنه مُخلص في انتصاره للإنسان، ومنسجم في نزوعه النضالي، سائر لا يلتفت، ولا يُساوم، وهو يلاحظ ويتأمل وينتقي ثم يحلل وينتقد. ولذلك، فحتى وإن كان يُنَظَّرُ للصورة، بكل أنواعها ومآلاتها، فإنه ظل أمينا لما خُلق له مناضلا مسكونا بالنقد وتقليب الأمور على وجوهها، بدءا برصد مسارات نظام الأصنام بطبيعته الثيوقراطية، مرورا بنظام الفن بصيغته الإيديوقراطية، ثم انتهاء عند النظام البصري بتوجهه الفيديوقراطي، بتعبيرات ريجيس دوبريه (ص216). وفي محصلة ذلك الرصد المستوعب والتحليل الدقيق، والنقد النافذ، انتهى إلى القول” هذا معناه ان الإنسان بدأ متمتما وخطاطا، وانتهى ناطقا في اللغة وناظرا في العين” (ص12 من الصورة)، وإن أدمج تجربة الإنسان العربي/المغربي وجعلها تنتظم في هذه المسارات الطويلة والمعقدة، واستحضر خصوصياتها، والتمثيل لها بما يُميزها عن باقي التجارب الأخرى في التراث الأسيوي أو الإغريقي أو غيرهما، قديمها وحديثها.

ومادام هذا الإنسان العربي/المغربي معنيا بهذا المصير المحتوم، زمن التمثيل البصري بكل أشكاله، فقد خص بنكراد معظم مساحات الكتاب، لهذا النوع من الصور زمن الشاشة والرقمنة، عارضا ومتأملا ومحللا وناقدا ومستنطقا، و”مناضلا” وسنده معرفته الواسعة في المجال، وخبرته فيها، ومخيلة الخصبة، وهي تربط بين عوالم الصورة ومحيطها ودوائرها الصغيرة والكبيرة، وتُجسّر بينها، بكثير من الذكاء والمردودية. وغاياته في كل ذلك، هو أن يقتفي آثار الجهل بالصورة ومآلاتها الظاهرة والخفية، ورصد مظاهر الاستلاب والاستبلاد والسطحية والافتتان والتدجين والتضليل والتيه والثرثرة والتسطيح والخواء…

(*) أستاذ السميائيات وتحليل الخطاب (جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال)

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق