في زمنٍ تتقاذفه العواصف السياسية، وتتعالى الأصوات بين هدير المدافع وصدى المبادرات الدولية، مازالت فلسطين حبراً لا يجفّ على خرائط الصراع. ومع كل مقترح يُطرح تُعاد كتابة الأسئلة القديمة بحبرٍ جديد: من يُمثّل؟ ومن يقرّر؟ وما الثمن؟.
بين هذه التقاطعات أثار الحديث عن “موافقة حركة حماس على خطة السلام الأمريكية” نقاشاً واسعاً في الأوساط الفلسطينية، خاصة الإعلامية منها، بالنظر إلى ما تحمله الخطة من تعقيدات إستراتيجية وتحوّلات دبلوماسية، تضع فصائل المقاومة بين واقع الميدان وحسابات السياسة الدولية.
في هذا السياق استقت هسبريس آراء إعلاميين فلسطينيين، لتسليط الضوء على دلالات هذا التحوّل المحتمل، ومدى انسجامه مع الثوابت الفلسطينية، ومع ما تشهده المنطقة من تحوّلات متسارعة.
وأكد الإعلاميون الفلسطينيون الذين تحدثوا لهسبريس أن الحديث عن “موافقة حماس على خطة ترامب” يحتاج إلى كثير من التمحيص والتدقيق، مشيرين إلى أن الحركة لم تصدر موقفاً رسمياً واضحاً بهذا الخصوص، وإلى أن ما يُتداول يدخل في إطار التأويلات أو محاولات جسّ النبض السياسي، سواء من أطراف داخلية أو قوى إقليمية تسعى إلى إعادة تشكيل ميزان التفاوض في الملف الفلسطيني.
كما اعتبر المتحدثون أن أي انخراط لحماس في مقترح أمريكي بهذا الحجم سيكون بمثابة تحوّل إستراتيجي عميق في خطابها السياسي، ما يفرض على المتابعين التريث قبل إصدار أحكام قطعية، خاصة في ظل هشاشة السياق الإقليمي، وتضارب المواقف داخل البيت الفلسطيني نفسه.
قبول حذر
محمود حريبات، رئيس مجلة “لمّة صحافة” الفلسطينية، يرى أن تعاطي حركة “حماس” مع خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في شقها المتعلق بتبادل الرهائن، يدخل في إطار “قبول أولي مشروط”، لا يعني بأي حال من الأحوال القبول بالطرح السياسي الكامل الذي تتضمنه “صفقة القرن”، وقال في تصريح لهسبريس إن “موافقة الحركة على بنود إنسانية أو تفاوضية محددة لا ينبغي تأويلها كتحول جذري في موقفها من القضية أو من سلاح المقاومة”.
واعتبر حريبات أن ما يُروّج حول هذا القبول الجزئي يُستغل من طرف بعض الجهات الإقليمية والدولية لتمرير خطاب مغلوط يوحي بانهيار جدار الرفض داخل الفصائل الفلسطينية، موضحاً أن “حماس تدير هذا الملف من موقع براغماتي، لكنها مازالت تحتفظ بثوابتها الكبرى، خاصة ما يتعلق بعدم نزع السلاح ورفض التطبيع”.
وأضاف المتحدث ذاته أن المناخ الإعلامي المحيط بالتسريبات يفتقد للتوازن، ويحاول أن يصنع رأياً عاماً مُوجهاً، دون التوقف عند حقيقة أن الحركة لم تُصدر موقفاً سياسياً شاملاً، بل فضّلت التعاطي مع الجانب الإنساني من الطرح، حفاظاً على أوراقها التفاوضية من جهة، واحتراماً لحاضنتها الشعبية من جهة ثانية.
وفي تفاعله مع سؤال هسبريس حول ما إذا كانت حركة “حماس” قد تقبل مستقبلاً بجميع بنود خطة ترامب، أو إن كان من المتوقع أن تبدي الإدارة الأمريكية تنازلات، قال محمود حريبات إن “التفاوض في السياق الفلسطيني الإسرائيلي نادراً ما يُحسم دفعة واحدة، بل يتم على مراحل، وتُفرَض فيه التنازلات بقوة الميدان والسياسة، لا بمنطق القبول الشامل”.
وأوضح الإعلامي الفلسطيني أن الحركة قد تتفاعل مع بعض المقترحات التي تتقاطع مع مصالحها التكتيكية أو الإنسانية، “لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنها ستتخلى عن ثوابتها، خاصة في ظل توازنات إقليمية جديدة، ودعم داخلي لم يُستنزف بعد”.
وأضاف المتحدث أن الولايات المتحدة تدرك بدورها أن نجاح أي مبادرة، حتى ولو كانت أمنية أو إنسانية، يتطلب مرونة من الطرفين، ولذلك “من غير المستبعد أن تعدّل بعض الصياغات أو الآليات بما يتيح لحماس الخروج من عنق الزجاجة دون أن يُحسب عليها تراجع سياسي مفضوح”.
واقعية سياسية
وائل حمدي، الصحفي الفلسطيني المستقل، يرى أن موافقة حماس المبدئية على خطة ترامب لا تعني تغييراً جذرياً في توجهات الحركة، بقدر ما تعكس تفاعلاً براغماتياً مع السياق الدولي والإقليمي، وقال في تصريحه لهسبريس إن “الحركة تدرك أن المشهد يتغير، وأن الصراع لم يعد فقط بالبندقية، بل أيضاً بلغة المبادرات والمسارات التفاوضية التي تحرّكها العواصم الكبرى”.
وأشار حمدي إلى أن حماس تسعى من خلال هذا الانفتاح الجزئي إلى إعادة تموضع سياسي يجنّبها العزلة ويُكسبها بعض النقاط في الداخل الفلسطيني، خصوصاً في ظل انسداد أفق المصالحة مع السلطة وتنامي الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة.
وأضاف المتحدث ذاته أن الإدارة الأمريكية، بدورها، تحاول جرّ الحركة نحو مسار تفاوضي طويل النفس، يعتمد سياسة الخطوة مقابل التهدئة، موضحاً أن واشنطن ليست معنية بتفكيك حماس الآن، بقدر ما تسعى إلى تحييدها تدريجياً، بما يخدم إعادة ترتيب الأولويات في المنطقة، كما يرى أن قبول الحركة ببعض بنود الخطة لا ينبغي قراءته كضعف، بل كمناورة ذكية ضمن لعبة شطرنج إقليمية معقدة.
وأورد الصحافي ذاته أن توازن الضغوط والفرص هو ما سيحدد مستقبل تعاطي حماس مع خطة ترامب، مؤكداً أن الحركة، رغم خطابها المتشدد، تجد نفسها اليوم أمام واقع سياسي واقتصادي خانق، قد يدفعها إلى القبول بتنازلات غير مسبوقة، ومبرزا أن استمرار الحصار، وتقلص الدعم الإقليمي، واحتقان الشارع الغزّي، كلها عوامل تُحاصر خيارات حماس وتدفعها نحو مقاربة أكثر مرونة، حتى وإن تعارضت مع أدبياتها التقليدية.
وفي المقابل يبرز حمدي أن الإدارة الأمريكية نفسها قد تجد ضرورة لتعديل بعض بنود الخطة، إذا ما رغبت فعلاً في إدماج الحركة ضمن تسوية مقبولة إقليمياً، وقال إن “توازن القوى على الأرض، والمواقف المتباينة داخل الساحة الفلسطينية، والرفض الشعبي الواسع لبعض بنود الخطة، كلها عوامل قد تُرغم واشنطن على انتهاج براغماتية جديدة”.
0 تعليق