هكذا عشق لوكليزيو الصحراء المغربية.. أرض السحر وجسر عبور نحو إفريقيا - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لوكليزيو وعشق المغرب

يروي جان ماري غوستاف لو كليزيو، الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2008، في إصداره الجديد (2024) المعنون بـ”الهُويَّةُ الرَّحَّالة Identité nomade ” قصة حياته، ويكشف عن أهم ما طبعها، وهو: الترحال؛ فهو يصرح منذ البداية بأن أهم ما ورثه من عائلته هو الشغف بالسفر والانجذاب إلى ما يمكن تعلمه من عوالم السفر.

وينحدر لو كليزيو من أبوين من جزر موريس أو موريشيوس. هاجر الأب مبكرا إلى نيجيريا للعمل كطبيب، واستقرت الأم رفقة أسرتها في باريس…

وطبعا لا يمكن للوكليزيو أن يفرد فصول حياته دون أن يعرج على علاقته بالمغرب، وبالصحراء المغربية تحديدا؛ فارتباط الكاتب بالمملكة قديم ممتد في الزمن والمكان، يعود لسنوات الخمسينيات من القرن الماضي، ويشمل مختلف مناطق البلاد، من مدن الشمال إلى مدن الصحراء.

ويعلن الكاتب عن ارتباطه القوي بالمغرب منذ غلاف الكتاب، بالإشارة إلى مبدع اللوحة المتضمنة في المؤلف، الفنان المغربي ماحي بنبين Mahi Binebine، وبإهدائه العمل إلى نجوم سيدي مومن (الإحالة هنا ليست على الحي البيضاوي الشهير، وإنما أيضا على عنوان رواية لبنبين) وجامع الفنا، إضافة إلى إفراد فصل من الكتاب لما سماها “قصة شخصية من المغرب”؛ هذا علاوة على زخم الأحداث والشخصيات والمواقف والتفاصيل الكثيرة جدا، التي تحيل على أرض المغرب…

عشق المغرب الممتد في الزمن

أول زيارة قام بها الكاتب للمغرب كانت برفقة والده، في بداية سنوات الخمسينيات. كان الوالد قد تقاعد، وأراد التعرف على مراكش، فقررا السفر إلى الدار البيضاء عبر الباخرة، ثم استقلا الحافلة من هناك للالتحاق بمراكش. الرحلة كانت طويلة وحافلة بالأحداث. ويروي لوكليزيو أن أباه، الذي عمل طبيبا في الجيش الاستعماري البريطاني، صدم خلال رحلتهما بمشهد ظل راسخا في ذهنه كطفل، فقد كانا على متن الحافلة، التي يقودها سائق فرنسي، وفي لحظة ما توقف السائق ليتحقق من وضعية الركاب، فوجد شيخا فقيرا لا يتوفر على ثمن تذكرة السفر فأنزله في الخلاء، دون اعتبار لسنه، فخاطب الأب طفله قائلا: “أترى، إنه الاستعمار. ينبغي وضع حد لهذا النظام. فليس من الطبيعي ألا نراعي وضعية رجل مسن وألا نساعده…”. ويحكي لوكليزيو أن ذلك الحدث الذي وقع أثناء السفر إلى مراكش جعله يدرك ظلم الاستعمار.

مراكش سنوات الخمسينيات، التي بدت للوكليزيو الطفل مدينة يعلوها الغبار، هي مختلفة جدا عن مراكش اليوم. لكن جوهر المدينة ظل كما هو، فجامع الفنا ظل كما هو بصوت الطبول ورقصات كناوة، ومروضي الأفاعي وبائعي الحلي، وغيرهم كثير من صناع الفرجة في الساحة الشهيرة الذين ظلوا كما كانوا منذ عقود.

“مازلت أجد كل ذلك حتى اليوم”، يقول لوكليزيو، وزاد: “نفس طعم ارتشاف الشاي من فوق شرفة فندق فرنسا، وتأمل معالم المدينة الحمراء الممتدة في الأفق، حيث تمتزج مشاعر الغرابة بالحميمية الإنسانية، في تجربة فريدة”.

زيارة لوكليزيو إلى مراكش في فترة الخمسينيات، وما خلفته في نفسيته من ذكريات استثنائية، شكلت منعطفا حاسما في حياته، جعله يشعر بالامتنان العميق تجاه هذه المدينة، وإزاء عدد من الحواضر الإفريقية الأخرى، التي منحتنه، وهو القادم من بلد مدمر، فرحة الحياة منذ أن كان طفلا في الثامنة من عمره.

وظل لوكليزيو طوال حياته مدينا لهذا التحول، الذي حدث بفضل زيارته لإفريقيا. التجربة الحياتية التي مر منها لوكليزيو جعلته يعي زيف الخطابات ذات الخلفية الاستعمارية، التي تنظر إلى القارة السمراء باعتبارها قارة فقيرة، ومنكوبة؛ فعلى العكس هو يرى أن أوروبا هي التي كانت منكوبة، وفقيرة، وغادرها هو وأسرته والعديد من الأوربيين للذهاب إلى بلاد الرخاء والثراء…

المغرب الإفريقي

المثير للاهتمام أن لوكليزيو يربط مدينة مراكش بعمقها الإفريقي، وبالصحراء، بصفتها جسرا للعبور نحو الجنوب، نحو أدغال القارة السمراء.

فمراكش بقدر ما هي روح المغرب، ورمز عراقته، هي أيضا علامة من علامات الهوية الإفريقية. أليست مراكش، كما يؤكد لوكليزيو، واحة على أعتاب الصحراء، في طريق العبور نحو الإمارات والحواضر الإفريقية؟ إن روح الواحة التي تبرز بجلاء لكل قادم إلى المدينة الحمراء، التي تطبع بعمق ثقافة المدينة، لها معنى عميق في التاريخ، يمكن أن نستشف منه بعد الهوية الإفريقية، التي تشكلت جزئيًا بين أحضان هذه المدينة، عندما كانت لقرون عديدة عاصمة إمبراطورية شريفة، تضم عدة إمارات إفريقية…

لكن ما سبق لا يمنع أن علاقة المغرب بإفريقيا ظلت طوال العقود الماضية علاقة مفارقة: فمن جهة لم تكن الثقافة المغربية أو لعلها نسيت أنها جزء لا يتجزأ من تاريخ إفريقيا، ومن جهة أخرى لا يعتبر معظم المغاربة أنفسهم أفارقة، إذ كانوا يلتفتون في الغالب جهة الشمال (أوربا)، وناحية الشرق، أكثر منه نحو الجنوب.

والسبب يعود أولا إلى التغيير الذي أحدثته قوى الاستعمار في مسارات التجارة العالمية التقليدية القادمة من إفريقيا، بالاستعاضة عن المسار العابر للصحراء والمتجه نحو حواضر المغرب التاريخية بمسار الساحل؛ كما يعود إلى إكراه الجغرافيا وصعوباتها التي يواجهها كل من يعبر الصحراء، ويجتاز مسالك الواحات.

سحر الصحراء المغربية

يكشف الكاتب في متن سيرته أبعاد هويته التي وسمها بالرحالة، فالترحال بالنسبة إليه ليس مجرد ترفيه، وترويح عن النفس، بل هو تجربة تعلم، مثلما هو تجربة كتابة. لكن علاقة السفر بالكتابة عند لوكليزيو معقدة، فهو لا يسافر إلى مكان ما لأجل الكتابة عنه، بل على العكس هو يكتب عن مكان ما لكي يستطيع السفر إليه حقا؛ وهكذا فعندما يبدأ سرد أحداث روايته أو نصه القصصي الجارية في بلد ما يكون غالبا بعيدا عنه، فقد كتب عن جزيرة موريس عندما استقر في باريس، وكتب عن “الصحراء” المغربية في الطابق السفلي من السفارة الإسبانية في باريس.

ويروي لوكليزيو بعض أسرار روايته الشهيرة “الصحراء”، فهو عندما كتبها لم يكن يعرف هذه الجغرافيا الاستثنائية معرفة دقيقة، إذ لم يتعرف على الصحراء إلا بفضل زوجته “جميعة”، التي تنحدر منها، فبفضلها، وبمساعدة حماته التي تنحدر من عائلة سيدي أحمد لعروسي العريقة، تعلم الكثير عن الصحراء، وعن حياة الرحل في الصحراء، أولئك الناس الذين يطلق عليهم اسم “أهل السحاب”، لأنهم يقضون حياتهم في تعقب السحب في السماء للاستفادة من الأمطار النادرة التي تروي قطعان إبلهم.

زيارات لوكليزيو للمغرب وزواجه من إحدى بناته، وعيشه بين أصهاره في الصحراء المغربية، أمور أتاحت له إدراك كنه البلاد، والتقاط ما سماه بعدها السحري. ففي المغرب شعر لوكليزيو بالسحر في كل لحظة وفي كل مكان، في الأشجار والأنهار وفي البشر، وفي مقدمتهم زوجته؛ فهي سليلة سيدي أحمد لعروسي، أحد حكماء وأولياء المغرب البارزين.

وللتعبير عن قناعته بالمغرب كبلد ساحر يحكي لوكليزيو حكاية جد زوجته، سيدي أحمد لعروسي، الذي كان سجيناً في تونس، فتوجه بالدعاء إلى خالقه لفك أسره، فتلا سورة الزلزلة (إذا زلزلت الأرض زلزالها)؛ فاستجاب الخالق بأن بعث له ملاكا، أمسكه من حزامه، لأن الناس في زمنه كانوا يتمنطقون بأحزمة غليظة، وحمله وعبر به كامل تراب المغرب، ووضعه في أطراف البلاد، في الساقية الحمراء. ويفيد لوكليزيو بأن رؤية صخرة تحمل آثار أقدام هذا الولي عند هبوطه في هذه المنطقة مازالت ممكنة.

وعلاوة على قصة الولي سيدي أحمد لعروسي، جد زوجته، يحكي لوكليزيو حكاية شخص آخر كانت تربطه علاقة قرابة مع عائلة أصهاره، هو المقاوم ماء العينين. ويذكر لوكليزيو أنه كلما زار مراكش، ولمح نهر تانسيفت المخترق لسهل الحوز، المحاط بجبال الأطلس الكبير، إلا واستحضر قصة ماء العينين، أحد قادة مقاومة الاستعمار الإسباني والفرنسي، الذي جمع أنصاره، وزحف من أقاصي الصحراء، ليحط الرحال على بالمدينة الحمراء، من أجل تلقي بركة السلطان ونيل رضاه، واستمالة القبائل، استعدادا للوقوف في وجه التغلغل الاستعماري بالجنوب، وبكامل التراب المغربي.

ويحكي لوكليزيو أن ماء العينين، رغم تقدمه في السن، قطع مسافة طويلة للغاية، على رأس جيشه، للوصول إلى مراكش. وبسبب التعب وطول الانتظار عاش القائد الصحراوي أيامًا عصيبة، ومع ذلك ظل يأمل حتى اللحظة الأخيرة أن تكلل مساعيه بالنجاح؛ لكن الأمور سارت على نحو سيئ، فقد كان مسنًا ولم ينجح في حشد كل المغاربة، واضطر إلى التراجع إلى الوراء، لتتوقف أنشطة المقاومة المسلحة بعد ذلك بوقت قصير.

وهكذا شكلت مراكش، بالنسبة لماء العينين وصحبه، مشهدا من المشاهد الأخيرة من تاريخ مقاومة المغرب لتقدم القوات الاستعمارية، إلى جانب المشاهد التي جسد بطولتها قادة آخرون، في مناطق المغرب الأخرى، مثل موحى وحمو الزياني وعسو باسلام وغيرهم كثير…

يروي لوكليزيو أن ماء العينين بعد هبته المراكشية عاد إلى الساقية الحمراء، لكن قبل بلوغ وجهته مات في الطريق، بالقرب من تيزنيت، فتحول قبره إلى ضريح، يحتضن رفات زوجته أيضا. وقد تحول ضريح ماء العينين إلى نقطة جذب، يزورها أهل الصحراء وعموم مغاربة الجنوب، مثلما زاره لوكليوزيو نفسه، الذي يكن احتراما كبيرا للرجل، المقاوم، والمثقف والوطني، الذي أفنى حياته للدفاع عن الوطن وللحفاظ على استقلاليته وكرامة ناسه.

حكايات مغربية من الضفتين:

قصص لوكليزيو وحكاياته المغربية لا تنتهي، فقد ألهمته البلاد، بطبيعتها وأناسها وتاريخها، الكثير من الأفكار والأحداث والشخصيات. ومن القصص التي يكشف فيها الكاتب عن التأثير السحري الذي مارسه عليه المغرب قصة “حب في فرنسا”، التي نشرها في البداية في مجلة اليونسكو، ضمن ملف مخصص لتيمة الحب، صدر سنة 1993، ثم ضمنها مجموعته “Avers”.

نص المجموعة المعنون بـ”الحب في فرنسا” هو على نحو ما يحيل على سبب وجوده، المتمثل في تكليف لوكليزيو من طرف اليونسكو بالكتابة عن الحب في فرنسا. هذا النص مدين لتعرف لوكليزيو على مهاجر مغربي في فرنسا، يدعى في القصة “عبد الحق”، يعمل في أوراش البناء بمدينة نيس، حيث التقاه. ويعيش عبد الحق وحيدا، بعيدا عن أسرته المتواجدة في طاطا، عند التخوم الشمالية للصحراء المغربية. التقى لوكليزيو بعبد الحق فأثار انتباهه بدماثة خلقه، وتفانيه في العمل الذي يحبه ويتقنه، وهو صناعة وتزيين الأسقف بالجبس، هذا بغض النظر عن الظروف القاسية التي كان يعيشها.

ولاحظ لوكليزيو أن الدافع الوحيد الذي كان يحرك حياة عبد الحق، إلى جانب تدينه وورعه، الحب الكبير الذي كان يكنه لزوجته “حورية”، فكان كلما عاد إلى بيته، وخلا إلى نفسه، لا يفكّر إلا فيها؛ لقد كانت حياته بأكملها متوجّهة نحوها، ونحو أسرته وأبنائه، لم يكن يعيش إلا من أجلهم، وفي المقابل لم يكن الناس الذين يشغلونه على دراية بهذا الجانب الحميمي من حياته. وحده لوكليزيو الكاتب استطاع الاطلاع على خبايا حياة عبد الحق، التي رغم قسوة ظروف حياة الهجرة (الغربة والعمل الشاق والوحدة…) تكشف عن البساطة ورهافة الحس، والثقافة العميقة، والحس الإبداعي الرفيع، الذي يتجلى في كل ما يصنعه الرجل. كل ذلك جعل لوكليزيو يتأثر بشخصية عبد الحق تأثرًا بالغًا.

والأكثر من ذلك إقرار الروائي، بفضل نظرته الفلسفية الثاقبة، بأن إبداع عبد الحق في فن صناعة الأسقف وتزيينها بأشكال جبسية بديعة لا يقل عن إبداع الشاعر، واشتغاله على اللغة الأدبية…

رسالة الأدب الإفريقي

يدرك لوكليزيو، الذي ينحدر من رحم أرض موريس، جوهر إفريقيا، قارة الالتزام، والخيال، والحكاية، والاستعارة، وغيرها من عناصر الكيمياء الخاصة، التي تجعل من هذه القارة السمراء، ومن إفريقيا الصحراوية بالتحديد، واحدة من الأمكنة المثالية للإبداع الأدبي.

ولعل ذلك ما تكشف عنه «مكتبات الصحراء»، التي انبثقت طوال قرون خلت في ربوع الصحراء الكبرى، في تومبكتو (مالي)، وولاته (موريتانيا)، والسمارة (المغرب)… وشكلت مشاتل الإبداع الشعري، والعلمي، والفقهي والصوفي…الخ، قبل أن تمتد إليها أيادي الغزاة (الاستعمار الغربي، ثم بعده موجات الإرهاب).

إن إفريقيا، هذه القارة التي مزقتها الأحداث التاريخية وعبثت بها ومازالت، تخضع اليوم لتقلبات المصير، ولحروب الإخوة الأعداء، وللظلم الاجتماعي، فتجد نفسها اليوم مطالبة بالكفاح من أجل البقاء، وأن تواجه الضرورات شبه المستحيلة للجمع بين التنمية والتوازن البيئي، لهذا هي اليوم أكثر من أي وقت مضى في أمس الحاجة إلى الأدب، لأن الأدب في القارة الإفريقية له رسالة حقيقية، فهو أفضل مكان للقاء، عبر الإبداع، والخيال، والميراث الثقافي. إن رجال ونساء هذه القارة السمراء في حاجة إلى أن يتعارفوا، أن يتعرف بعضهم إلى بعض. وعبر تجاوز الحدود المصطنعة، يتيح الأدب هذا التعارف، وهذا الاعتراف المتبادل…

ولا شك أن هذا الدرس الذي يقدمه لوكليزيو هنا هو ثمرة اطلاع واسع على أهم العلامات المضيئة في أدب إفريقيا، في كل ركن من أركان القارة مترامية الأطراف، ونتاج قراءات موسوعية وعاشقة لأدب إفريقيا العظيم.

ولا مجال في نظر لوكليوزيو للاستغراب من هذه الرسالة الاستثنائية لهذا الأدب؛ فمن يتساءل باستمرار عن قوة الكلمات، وعن جدوى الأدب، في عالمنا المجبول على العنف والظلم والاستغلال، يمكنه العثور على الجواب، في نظره، في الأدب…

  • أستاذ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا -جامعة ابن طفيل-القنيطرة

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق