احتجاجات جيل"Z".. - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

صور صادمة وتطورات متسارعة يشهدها الشارع المغربي خلال هذه الأيام. صور ومشاهد تعكس حقيقة واقع قائم بأبعاده الأمنية، والحقوقية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وبمؤشرات دالة وواضحة جِـدًّا. والحالة هاته، فلا يمكن هنا أن نقفز عن هذه الوضعية، وبالتالي تجاهل الحقيقة. حقيقة الوضعية القائمة. فالدول الذكية (الذكاء السياسي والمؤسساتي) بكل مكوناتها (الأنظمة السياسية/ السياسات السائدة/ الحكومات والأجهزة والمؤسسات التي تتولى تدبير الشأن العام، واتخاذ القرار السياسي والاقتصادي والأمني/ مؤسسات أخرى…) هي التي تُحسن الإنصات والتفاعل الإيجابي مع نبض الشارع والمجتمع بكل جرأة ووضوح، وموضوعية، ومسؤولية، ونقد ذاتي، وشجاعة، وآنية واستباقية، وفق مقاربة شاملة تستوفي مختلف الأبعاد، بعيدًا عن لغة المبررات الواهية أو البحث عن مسوغات أخرى، والهروب من مواجهة الحقيقة كما هي. في هذا الصدد، يمكن أن نسجل أن عدة مؤشرات تراكمية متعددة كانت بمثابة إنذار ينبئ بالقادم، لكن يبدو أن التعامل معها لم يكن في إطار “الذكاء السياسي والمؤسساتي” والتقدير المطلوب. فهل ستكون هذه الدينامية وهذه الاحتجاجات، بما تعكسه من تحولات ومخاضات، بمثابة الصخرة التي ستحرك مياه البركة الآسنة؟

شيء من الماضي..

لا معنى للعودة إلى التاريخ ومجرياته وأحداثه وملابساته ومنعطفاته بدون استخلاص العبر والاستفادة من ذلك. ففي كثير من الأحيان التاريخ يعيد نفسه، وإن اختلفت الصيغ أو السياقات والتداعيات، ذلك أن خيطًا ناظمًا رفيعًا يجمع ويربط بين لحظاته المتعددة. هنا لا بد من استحضار الأحداث الاجتماعية والاحتجاجات الشعبية التي شهدها المغرب، خصوصًا في العقدين الأخيرين، ومن ثمة ضرورة بلورة مقاربة مبنية على التراكمات والتجارب السابقة (وحتى تجارب الشعوب الأخرى). وهنا لا بد من القول الصريح أن المغرب في كثير من الحالات أمام إعادة نفس الأساليب والمقاربات والأخطاء، وهنا مربط الفرس كما يقال، فلا ينبغي أن نقفز عن الحقيقة التي تعتبر منطلق معالجة مختلف الإشكالات والقضايا والمعضلات، حتى لا تتكرر المقاربات الاختزالية، أو المقاربات الاستبعادية بدل الاستيعابية، وهذا أمر حدث مرارًا وكانت له نتائج عكسية، بحكم أن سياسة الهروب إلى الأمام لا تنتج إلا نفس المقاربات والمنظومات الفاشلة، وهذه خلاصة واضحة كأننا لا نستفيد مطلقًا من التجارب السابقة، وقديمًا قيل: “اللي زرع الريح، يحصد غبارو”.

شيء من الحاضر..

ما حدث، هنا والآن، وقد يحدث بصيغة أو بأخرى مرة أخرى، جدير بالتأمل والتفاعل الإيجابي. فهو يُسائل بإلحاح (مع كثير من التحفظ على هذه المفاهيم المستعملة هنا) ماهية وطبيعة “السياسات العمومية” و”البنية” السياسية والحزبية والنقابية، ومؤسسات الوساطة(…)، بل وحتى البنية المجتمعية ككل. يسائل أدوار “الطبقة السياسية”، و”النخبة المثقفة” و”سلطة” الإعلام، ودور المدرسة والجامعة، ومؤسسات التنشئة الاجتماعية بمختلف مستوياتها. يُسائل المنظومة التربوية والأمنية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية، لاسيما منها المرتبطة بالبرامج والسياسات الموجهة لفئة الشباب، خاصة أمام طبيعة البنية العمرية للفئات المحتجة (الأغلبية منها تتراوح أعمارها ما بين 15 و25 سنة). وقبل هذا وذاك، يُسائل ما يسمى بسياسات إدماج وإشراك هذه الفئة في شتى المخططات، وكذا مؤسسات الحكامة وسؤال التمثيلية. ما حدث في مختلف تجلياته يسائل أيضًا مخططات وبرامج “العدالة الاجتماعية والمجالية” وأوراش “الإصلاحات الكبرى”، وما يتم الحديث عنه من مشاريع مجتمعية وبدائل يبدو أنها فاشلة. يسائل بكل تأكيد مستوى الديمقراطية وحقوق الإنسان ومؤشرات الفساد في شتى أبعاده. يسائل التحولات المجتمعية المتسارعة في عصر التكنولوجيا الجارفة. باختصار يسائل حصيلة كل ما تم زرعه. هي الحتمية التاريخية، إذن، كما تُسمى في الأدبيات الماركسية. مساءلة من المفروض أن تقترن بالمحاسبة، في إطار ربطها بالمسؤولية، وتجاوز إعادة إنتاج نفس منظومات الأزمة والاختلالات الكبرى.

أرقام ومؤشرات..

بقدر ما هي الكثير من الإحصائيات والأرقام والمؤشرات تحتاج دائمًا لقراءاتها وتحليلها والتأمل في مغزاها، بقدر ما هي دالة باعتبارها معطيات تشكل قاعدة دقيقة لبناء وبلورة رؤى واستراتيجيات/ مخططات مستقبلية تساير وتُجيب عن مختلف الإشكاليات والخلاصات الدالة التي تقدمها هذه الأرقام والمؤشرات. فهي البوصلة والدليل والمنظار الكمي والنوعي لاستجلاء معطيات واقعية.
وإن كانت هذه المؤشرات الرقمية لا تبني وحدها السياسات والمنظورات، بحكم أنها نسبية وذات طبيعة تقنية، ففيها على الأقل الكثير من الدلالات. لنتأمل ما يلي:

تصنيف المغرب على مستوى مؤشرات التنمية البشرية: 120 عالميًا.

تصنيف المغرب على مستوى جودة التعليم: 98 عالميًا، وفي تقرير العدالة العالمية تراجع إلى المرتبة 110 عالميًا.

تصنيف المغرب على مستوى مؤشر الرعاية الصحية العالمي: 94 عالميًا، وفي تصنيف آخر في المرتبة 74.

تصنيف المغرب على مستوى حرية الصحافة: 120 عالميًا.

تصنيف المغرب على مستوى جودة التعليم العالي: 64 عالميًا.

تصنيف المغرب على مستوى المؤشر العالمي لتنمية الشباب (سنة 2023): 82 عالميًا.

أما على مستوى الإحصائيات الأخرى، يكفي أن نشير إلى أن المندوبية السامية للتخطيط كشفت أن عدد المغاربة البالغين ما بين 13 و28 سنة بلغ ما مجموعه 9 ملايين و657 ألفًا و283 بحسب نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024، وهو ما يجعل ما يسمى ب “جيل Z”، يشكل حوالي 26.3 في المائة من مجموع سكان المغرب وفق ما جاء في وثيقة الرأي الذي أعده المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في إطار إحالة ذاتية، تحت عنوان: “شباب لا يشتغلون، ليسوا بالمدرسة، ولا يتابعون أي تكوين “NEET”: أي آفاق للإدماج الاقتصادي والاجتماعي؟”، كما يوجد واحد من بين كل أربعة شباب، تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، في وضعية “النيت”، أي ما يعادل 1.5 مليون فرد. كما تشير الإحصائيات، وفق ذات المرجع، إلى أن حوالي 331.000 تلميذ يغادرون المدرسة سنويًا. علاوة على مؤشرات أخرى تتعلق بنسبة البطالة المسجلة التي بلغت حوالي 13% خلال الربع الأول من سنة 2025، منها 36% في صفوف الشباب من 15 إلى 35 عامًا، وهي نسبة مرتفعة جدًا.

أشياء للمستقبل…

جيل “Z” و”ألفا” وغيرها من التسميات والتصنيفات، ليس مجرد فئة عمرية، بل هو جيل من أبناء “زمن رقمي”، بتصورات جديدة، وحاجيات مختلفة، وانتظارات مشروعة، وتجاهل هذه التحولات هو وصفة جاهزة للانفجار والاحتقان في أي بلد. واضح إذن أن المستقبل هو مستقبل جيل يطلق عليه بلغة العصر الراهن جيل “الزومبي” و”الرقمي”… وهو جيل في أعمار أبنائنا أو إخواننا رغم فارق المسافة الزمنية والذهنية والنفسية بين مختلف الأجيال المتعاقبة.. هو جزء من مجتمعنا. هو واقع وحقيقة. بالتأكيد هو جيل وموجة، وعقلية له، وفق تنشئته النفسية والاجتماعية وحتى “الرقمية” أو “الافتراضية”، (له) طموحات ورغبات وحاجيات ومطالب ورؤى مختلفة، وتحديات وانتظارات… ومن الواجب الإنصات له والتفاعل معه وفق مقاربة ناجحة وناجعة وشاملة، لا أحادية. مقاربة تقوم على تكامل دمج البعد الاجتماعي/ الثقافي، والاقتصادي/ التنموي، والحقوقي/ السياسي.. مقاربة تتجاوز فشل السياسات العمومية المتعاقبة ومعضلات الإصلاح المؤجل، والتغيير المنشود، وكل الأعطاب البنيوية التي طبعت وتطبع البرامج والمخططات الاجتماعية التي تهم قطاعات حيوية وحساسة تشكل أركان المواطنة الحقة: التعليم، الصحة، التشغيل، السكن، العدل. أركان تؤسس للحرية والكرامة والعدالة، وهو النهج الأفضل لتحصين هؤلاء الشباب من كل انحراف أو انسلاخ أو استغلال في ظل “اليأس السياسي” لدى فئات عريضة من شريحة اجتماعية تشكل قوة مجتمعية، وهو ما يطرح موقع التعبيرات الأخرى التي تتشكل في زمن التحولات التكنولوجية بكل إفرازاتها وتشكلاتها.

إن تجاهل العِبر المستخلصة من التجارب السابقة هو ما يعمّق فجوة الثقة، ويفتح الباب أمام أشكال من التعبير والاحتجاج الاجتماعي غير التقليدية، وتنبئ بمخاطر قادمة إن لم تُصاحبها حلول جذرية، ذلك أن الشباب لا ينبغي أن يبقى ويُترك على الهامش، فالمسألة تستدعي أن يكون في صلب الاهتمامات ومحور كل السياسات بعيدًا عن لغة الخشب، واللغة الجافة التي لا تقنع حتى أصحابها، والإيديولوجيات ذات الصلاحية المنتهية، وهو ما يحقق “دولة المجتمع” بدل “مجتمع الدولة”.

وجها لوجه..

بعد أن وضعت هذه الحالة أوزارها، ويبدو أن مياهًا كثيرة جرت تحت الجسر، قد يصبح من الأهمية بمكان طرح بعض الأسئلة التي تبلورت في خضم مجريات هذه الأحداث. أسئلة يمكن أن تكون محطة للتوقف عند الكثير مما يمكن استخلاصه من احتجاجات “جيل Z” “. (الحديث هنا يهم الظاهرة في ماهيتها وتمظهرها الأصلي بعيدًا عن كل انحراف أو تحريف أو انزلاق). أسئلة من قبيل: من يتحمل المسؤولية السياسية والكلفة الحقوقية في ما حدث؟ هل كان من الضروري أن يحدث ذلك، في وقت كان فيه بالإمكان تفادي هذه الأحداث المؤسفة التي اتخذت أبعادًا مختلفة وصادمة؟ هل تم استيعاب كل الرسائل الموجهة لمن يهمهم الأمر، أو التي حملتها صرخة الشباب؟ كيف يمكن استيعاب إفرازات الفجوة الرقمية في علاقتها مع الواقع المعاش؟ ما هي مقومات ومداخل بناء وإعادة بناء الثقة بين هذا الجيل، ومع من يُفترض أنه “النقيض”؟ كيف يمكن اختصار المسافة الفاصلة بين الفضاءات العمومية والرقمية بمختلف مستوياتها؟ ما هي سبل معالجة الجذور الثقافية والاجتماعية لمختلف الأزمات والقضايا والمعضلات القائمة، بما في ذلك إعادة النظر في المنظومات القيمية والقانونية والسياسية التي تؤطر هذه الفضاءات تبعًا للتطورات والتحولات المتسارعة؟ أي موقع لصوت الشباب والجيل الجديد في مستقبل المشهد القادم، في ظل غياب أو محدودية أثر الاستراتيجيات والتصورات التي تجيب عن الأسئلة الكبرى في عالم يختلف ويتحول في كل لحظة؟ ما موقع المدرسة العمومية والجامعة المغربية، ومن خلالها المنظومة التربوية والتعليمية، في بناء وإعادة بناء وتشكل النموذج الأمثل ليكون رافدًا من روافد كسب هذه التحديات. تحديات تتجاوز الاختلالات التي تحتاج لعلاجات جذرية، حتى لا يفوتنا القطار، وكذا لتجاوز مزيد من الهدر الزمني، وهذه اللحظة التاريخية، هي أكبر من أن تكون مجرد موعد عابر.

هي أسئلة وغيرها كثير أصبحت موضوع نقاش أو ينبغي أن تكون موضوع نقاش حقيقي مُمأسس يلامس بكل مسؤولية داء العطب القديم والحديث، ويؤسس لمداخل/ بدائل دولة الحرية، والكرامة والعدالة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق