ليس الفساد مجرد خلل إداري أو تجاوز قانوني، بل هو ظاهرة بنيوية تتغلغل في أعماق المجتمعات، وتعيد تشكيل العلاقات بين الأفراد والمؤسسات على نحو يهدد جوهر العدالة، ويقوض أسس التنمية، ويفكك منظومة القيم التي يقوم عليها التعايش الإنساني. إنه الوجه القبيح للسلطة حين تنفصل عن الرقابة، وللمصلحة حين تتجاوز حدود الأخلاق، وللخوف حين يصمت أمام الانحراف. في هذا السياق، يصبح الفساد أكثر من مجرد فعل فردي؛ إنه نمط ثقافي، وسلوك جماعي، ومنظومة متكاملة من التواطؤ والصمت والتبرير.
ينشأ الفساد حين تتآكل الحدود بين العام والخاص، وتتحول الوظيفة العامة إلى وسيلة لتحقيق المكاسب الشخصية، وتُختزل المسؤولية إلى امتياز، ويُستبدل القانون بالولاء، والكفاءة بالمحاباة، بحيث لا يعود النجاح مرتبطًا بالجدارة، بل بالقدرة على اختراق النظام، وتطويعه لخدمة المصالح الضيقة. وهكذا، يتحول الفساد إلى معيار ضمني يُقاس به النفوذ، وتُبنى عليه التحالفات، ويُعاد إنتاجه عبر الأجيال.
ولا يقتصر الفساد على المؤسسات السياسية أو الاقتصادية، بل يمتد إلى التعليم، والإعلام، والدين، والثقافة. حين يُصبح المعلم فاسدًا، يُلقن طلابه دروسًا في الخضوع والتواطؤ. وحين يُصبح الإعلامي فاسدًا، يُعيد صياغة الحقيقة وفقًا لأجندات خفية. وحين يُصبح رجل الدين فاسدًا، يُضفي شرعية زائفة على الظلم. وحين تُصبح الثقافة فاسدة، تُعيد إنتاج القبح في ثوب الجمال، وتُبرر الانحراف باسم الإبداع. في كل هذه الحالات، يُعاد تشكيل الوعي الجمعي على نحو يُفرغ القيم من مضمونها، ويُحول المواطن إلى كائن خائف، متردد، يبحث عن النجاة لا عن العدالة.
إن الفساد يضرب التنمية في مقتل. فحين تُهدر الموارد، وتُوزع المشاريع وفقًا للمصالح لا للحاجات، وتُعطى المناصب لمن لا يستحق، تُصبح التنمية مجرد شعار فارغ. لا يمكن لمجتمع أن يتقدم حين تُنهب ميزانياته، وتُعطل طاقاته، وتُهمش كفاءاته. التنمية الحقيقية تحتاج إلى بيئة شفافة، تُكافئ الجهد، وتحمي الحقوق، وتُحاسب المسيء. أما في ظل الفساد، فإن كل مشروع تنموي يُصبح فرصة للنهب، وكل خطة إصلاح تُصبح غطاءً للتلاعب، وكل خطاب وطني يُصبح وسيلة للتضليل.
فهو يُعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة بشكل لا منطقي، فحين يرى المواطن أن القانون لا يُطبق إلا على الضعفاء، وأن المسؤول لا يُحاسب، وأن الشكوى لا تُسمع، يُصاب بالإحباط، ويُفقد الثقة، ويُفضل الانسحاب أو التواطؤ. وفي مثل هذه الحالة، يُصبح الصمت فضيلة، والسكوت حكمة، والانخراط في الفساد ضرورة. وهكذا، يُعاد إنتاج الفساد من القاعدة إلى القمة، ويُصبح المواطن جزءًا من المشكلة لا من الحل.
يُؤثر الفساد في سلوك الأفراد على نحو عميق. فحين يُكافأ الفاسد، ويُهمش الشريف، يُعاد تشكيل منظومة القيم. ويُصبح الذكاء مرادفًا للغش، والنجاح مرادفًا للتحايل، والاحترام مرادفًا للخضوع. ولا غرو أن في مثل هذا الجو يَفقد الشباب الثقة في المستقبل، ويُصاب المثقف بالإحباط، ويُفضل المبدع الهجرة، ويُصبح المجتمع طاردًا للكفاءات، جاذبًا للانتهازيين.
فالفساد لا يُولد من فراغ، بل ينمو في بيئات يغيب فيها القانون، وتضعف فيها الرقابة، وتُهمش فيها المشاركة، ويُستبدل فيها الحوار بالقمع. إنه نتيجة لتراكمات تاريخية، وثقافات تبريرية، ونظم تعليمية تُكرس الخضوع، وإعلام يُعيد إنتاج الوهم.
مكافحة الفساد لا تكون بالشعارات، بل بإعادة بناء المؤسسات، وتكريس الشفافية، وتفعيل المساءلة، وتعزيز المشاركة، وتحرير الإعلام، وإصلاح التعليم، وتكريس ثقافة المواطنة.
في تجارب دولية عديدة، نجحت دول في تقليص الفساد حين جعلت من الشفافية قيمة عليا، ومن المساءلة ممارسة يومية، ومن القانون مرجعية مقدسة. في هذه البيئات، يُصبح الفساد مكلفًا، والخوف من العقاب رادعًا، والثقة في المؤسسات دافعًا للمشاركة. أما في البيئات التي يُكافأ فيها الفاسد، ويُهمش فيها الشريف، فإن الفساد يُصبح نمط حياة، ويُعاد إنتاجه في كل تفاصيل اليومي.
ويقينًا؛ إنه يُهدد الأمن القومي، ويُضعف مناعة المجتمع، ويفتح الباب أمام التدخلات الخارجية، ويُحول الدولة إلى كيان هش، قابل للانهيار. إنه ليس مجرد مشكلة داخلية، بل قضية وجودية، تُحدد مصير الأمم، وتُرسم بها خرائط النفوذ، وتُعاد بها صياغة العلاقات الدولية. ففي عالم تَحكمه المصالح، تُصبح الدول الفاسدة أدوات لا فاعلين، وتُصبح شعوبها ضحايا لا شركاء.
الفساد يُعيد تشكيل اللغة، ويُفرغ الكلمات من معناها. فتُصبح النزاهة شعارًا يُرفع في الخطابات، لا ممارسة تُطبق في الواقع. وتُصبح العدالة كلمة تُردد في المحاكم، لا قيمة تُحترم في السياسات. كما تُصبح المواطنة حالة قانونية، لا شعورًا بالانتماء. في مثل هذه الحالات، يُصبح الكلام وسيلة للتضليل، ويُصبح الصمت وسيلة للنجاة، ويُصبح الخوف لغة مشتركة بين الجميع.
لا يُعيد تشكيل الزمن إلا سرطان الفساد، فعندما يُصبح الماضي مبررًا للانحراف، والحاضر مساحة للتواطؤ، والمستقبل غامضًا غير مضمون، فإن الأمل في مثل هذه البيئات يصبح مفقودًا، ويُصبح معه الحلم ترفًا، والتخطيط عبثًا. ويُصبح المواطن منشغلًا بالبقاء، لا بالتغيير، ويُصبح السياسي منشغلًا بالتحكم، لا بالخدمة، ويُصبح المثقف منشغلًا بالتأقلم، لا بالنقد.
وليس هذا فحسب، بل إن الفساد يُعيد تشكيل الجغرافيا، حيث تُصبح المدن مساحات للتمييز، تُوزع فيها الخدمات وفقًا للنفوذ، لا للحاجة. وتغدو الأحياء مرآة للانقسام، تُكرّس التفاوت، وتُعيد إنتاجه، كما تغدو الحدود أدوات للمنع، لا للتنظيم، وتمسي المؤسسات حصونًا مغلقة، لا فضاءات للمشاركة. ولا شك أن العيش في مثل هذه البيئات، لا يخرج عن أن يكون عبئًا، لا فرصة، ومن ثمة يكون الانتماء عبثًا، لا قيمة.
ولا يقتصر الأمر على هذا الانحدار، وإنما يتجاوزه إلى إعادة تشكيل الاقتصاد، حيث تنقلب الثروة هبة للقرابة، لا للكفاءة. وتظل المشاريع وسيلة للنهب، لا للتنمية. وتُصبح الصفقات مجالًا للمحاباة، لا للمنافسة. ويُصبح السوق فضاءً للريع، لا للإنتاج، ويُصبح الاستثمار مغامرة، والابتكار مخاطرة، والعمل الشريف عبئًا. ويُعاد إنتاج منطق الريع في كل القطاعات: من العقار إلى التعليم، ومن الصحة إلى الإعلام، ومن الثقافة إلى الرياضة.
إنه يُعيد تشكيل الثقافة، مما يجعل من القيم سلعة، تُباع وتُشترى. ومن الرموز أدوات للتبرير، لا للإلهام. ومن اللغة وسيلة للتضليل، لا للتواصل. ومن الهوية قناعًا، لا جوهرًا. وتحت هذا الضغط يُعاد إنتاج القبح في ثوب الجمال، ويُبرر الانحراف باسم الإبداع، ويُحتفى بالسطحية، ويُهمش العمق. وتُصبح الثقافة أداة للهيمنة، لا وسيلة للتحرر. ويُعاد تشكيل التعليم، فتُصبح المدرسة فضاءً للتلقين، لا للتفكير. وتُصبح الشهادة هدفًا، لا وسيلة. وتُصبح المعرفة سلعة، لا قيمة. ويُعاد إنتاج التفاوت من خلال المناهج، ومن خلال اللغة، ومن خلال التقييم، لأن التعليم صار وسيلة لإعادة إنتاج الفساد، لا لمقاومته. ويُصبح المعلم موظفًا خائفًا، لا حاملًا لرسالة. ويُصبح الطالب مستهلِكًا، لا باحثًا.
0 تعليق