يأتي الخطاب الذي وجّهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى البرلمانيين، يوم الجمعة 10 أكتوبر 2025، بمناسبة افتتاح الدورة الأخيرة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، منسجماً مع تقليد خطابي وسياسي راسخ في المشهد المغربي: يتمثّل في اعتبار الخطاب الملكي أداةً لتحديد الإطار الاستراتيجي، وتحفيز الحماس الوطني، وتذكير الفاعلين بالأهداف الأساسية للدولة. ومع ذلك، فإن هذا الخطاب يتجاوز الطابع الاحتفالي والعبارات البروتوكولية ليكشف عن رؤية منظمة ومتماسكة وطموحة للتنمية الوطنية، تتمحور حول ثلاثة محاور جوهرية: المسؤولية المؤسساتية، والعدالة الترابية، وثقافة النتائج.
1- البرلمان كفاعل محوري في الحوكمة التشاركية
منذ البداية، يشدّد صاحب الجلالة على قيمة العمل البرلماني، ليس فقط في وظيفته التشريعية التقليدية، بل أيضاً في دوره الرقابي وتقييم السياسات العمومية. ولا يُعدّ هذا التقدير مجرّد مجاملة بروتوكولية، بل يعكس إرادة واضحة لتعزيز شرعية البرلمان وفعاليته كمؤسسة تمثيلية. ومن خلال التأكيد على “الدبلوماسية الحزبية والبرلمانية”، يدعو الملك إلى تكامل بين القنوات الدبلوماسية الرسمية والمبادرات السياسية، وهو ما يعكس تحوّلاً دقيقاً في تصوّر الدبلوماسية المغربية، التي باتت تُنظر إليها كمجهود جماعي يشمل الدولة والأحزاب والمنتخبين على حد سواء.
والأهم من ذلك، التذكير بأن تواصل السياسات العمومية لا يقتصر على الحكومة وحدها. فبوضع البرلمانيين “في الخط الأمامي”، يعيد الخطاب التأكيد على دورهم كوسيط بين الدولة والمواطنين، ويدعوهم في الوقت نفسه إلى تحمّل مسؤولية توعوية: شرح السياسات، وسياقها، وتهدئة المخاوف. إن هذه الرؤية الموسّعة للولاية البرلمانية تتجاوز التمثيل الشكلي لتُرسّخ البرلمان كركيزة أساسية للتماسك الاجتماعي ولشرعية النظام الديمقراطي.
2- العدالة الاجتماعية والإنصاف الترابي: استراتيجية هيكلية وليست ظرفية
يُعدّ أحد أبرز مكاسب هذا الخطاب هو الطريقة التي يعالج بها مسألة التنمية الترابية. فالملك لا يكتفي بالإشارة إلى التفاوتات، بل يُدخلها في منطق استراتيجي مستدام. فعبارة “ثنائية العدالة الاجتماعية ومكافحة التفاوتات الترابية” تحمل دلالة عميقة: فهي لا تشير إلى أولوية مؤقتة، بل إلى توجّه جوهري في العمل العمومي. والاختيار الدلالي لكلمة “ثنائية” يُبرز الترابط العضوي بين البعدين، ويوحي باستحالة تحقيق أحدهما دون الآخر.
ويؤكد الخطاب على ضرورة تجاوز التعارض غير الواقعي بين “المشاريع الوطنية الكبرى” و”البرامج الاجتماعية”، مذكّراً بأن الهدف النهائي يبقى تحسين الظروف المعيشية للمواطنين بشكل ملموس. وتهدف هذه الرؤية المتكاملة للتنمية إلى تصحيح ميل تاريخي لمعارضة الاستثمار الكلي للعدالة الاجتماعية. ويدعو صاحب الجلالة إلى تكامل، بل إلى انصهار المنطقتين معاً، لجعل النمو شاملاً حقاً.
3- أولويات ملموسة لترابية فعّالة
لا يكتفي الخطاب بالمبادئ العامة، بل يقدم خريطة طريق دقيقة، منظمة حول ثلاث أولويات محورية:
المناطق ذات الهشاشة القصوى (الجبال والواحات): هنا، يشير الملك إلى أن هذه الأقاليم، رغم بعدها عن مراكز القرار، تمثّل 30% من التراب الوطني وتحتوي على إمكانات لم تُستغل بعد. ويشكّل النداء إلى “سياسة عمومية متكاملة” قطيعة مع المقاربات القطاعية أو المجزّأة في الماضي. إذ لم يعد يُنظر إلى تنمية الجبال كتعويض فقط، بل كاستراتيجية لتفعيل الموارد المحلية (كالزراعة، والسياحة، والتراث).
الساحل: إن التذكير بالقانون المتعلق بالساحل والخطة الوطنية للساحل يعبّر عن إرادة واضحة لتحقيق توازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة. ويؤكد الملك على ضرورة بناء “اقتصاد بحري وطني”، ما يفتح الباب أمام إعادة توجيه استراتيجي نحو الصناعات الزرقاء – كصيد الأسماك المستدام، والطاقات البحرية، والسياحة الساحلية – مع تجنّب التمدد الحضري العشوائي والتدهور البيئي.
المراكز القروية الناشئة: تُقدّم هذه المبادرة كـ”رافعة مناسبة” تهدف إلى تدبير التوسع الحضري العفوي وتقديم خدمات قريبة من السكان في الوسط القروي. وهي تندرج في منطق لامركزية فعلي، حيث تتحوّل الأقاليم إلى أقطاب جذب مستقلة قادرة على الاحتفاظ بالشباب وتحفيز الاقتصاد المحلي.
4- نحو ثقافة النتائج وأخلاقيات المسؤولية
يخترق الخطاب خيطٌ ناظم واحد: مطلب الأداء. فالملك يدين بوضوح “الممارسات المُهدرة للوقت والطاقة والموارد”، مُديناً بذلك الهدر المؤسساتي الذي يقوّض فعالية العمل العمومي. ويشكّل هذا النقد دعوة صريحة إلى تحوّل عميق في العقليات، نحو “ثقافة النتائج” القائمة على معطيات ميدانية دقيقة واستخدام التكنولوجيات الرقمية. لم يعد المطلوب فقط “الإنجاز” بل “الإنجاز بشكل جيد، وسريع، وقابل للقياس”.
ويقترن هذا المطلب بنداء أخلاقي: فالـ”نزاهة، والالتزام، والتضحية” هي الفضائل المنتظرة من المنتخبين. وباستشهاده بالآية القرآنية حول المسؤولية الفردية عن الأعمال – “فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره” – يُرسّخ الملك هذا المطلب الأخلاقي في تراث روحي ومدني، مما يعزز البُعد التوجيهي لرسالته.
خاتمة: خطاب انتقالي وتوحيدي
يؤدي هذا الخطاب الملكي، المُلقى قبيل تجديد مؤسسي لا مفر منه (نهاية الولاية البرلمانية الحادية عشرة)، دوراً مزدوجاً: فهو يُنهي مرحلة بتقييم ما تم إنجازه، ويُمهّد في الوقت نفسه الطريق أمام جيل جديد من السياسات العمومية. إنه لا يكتفي برسم حصيلة، بل يحدد الاتجاه، ويبلور الأولويات، ويوزّع المسؤوليات. وبوضع العدالة الترابية في صلب المشروع الوطني، والمطالبة بفعالية أكبر للمؤسسات، والدعوة إلى حشد جماعي، يعيد الملك محمد السادس تأكيد رؤيته للمغرب الناهض كمشروع شامل، مستدام، ومتجذّر بعمق في ترابه.
ويجسّد هذا الخطاب، الجمع بين البُعد الاستشرافي والواقعية، الطريقة التي تواصل بها المؤسسة الملكية لعب دورها كمنظم استراتيجي، قادر على تجاوز الانقسامات السياسية الآنية لتوجيه الأمة نحو أهداف بعيدة المدى. إنه ليس مجرد تمرين بلاغي، بل عقدٌ ضمني حقيقي بين الملك والمؤسسات والمواطنين – قائم على المسؤولية، والتضامن، والفعالية.
0 تعليق