في عالم كرة القدم الذي لم يعد يكترث بالحدود الجغرافية، لم يعد غريباً أن ترى لاعبيْن ينتميان لجذور واحدة ويخوضان مسيرتين دوليتين مختلفتين. فبينما حصد زين الدين زيدان المجد مع منتخب فرنسا، ها هو ابنه لوكا زيدان يخطو اليوم على درب مختلفة تماماً، بعدما اختار تمثيل الجزائر، منشأ أجداده.
وحسب تقرير لـ«بي بي سي» فإن هذا التحول في الولاء الرياضي لم يكن ممكناً لولا التعديل التاريخي الذي أجراه الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) في سبتمبر 2020 على لائحة "الأهلية" للمنتخبات الوطنية، والذي فتح الباب أمام لاعبين كثر لتغيير انتمائهم الدولي، محولاً بذلك المشهد الكروي العالمي ومثيراً أسئلة عميقة حول الهوية والانتماء والفرص الرياضية.
ثورة فيفا التنظيمية
أحدثت التعديلات التي أقرها "فيفا" في خريف 2020 تحولاً جذرياً في مفهوم الجنسية الرياضية، حيث منحت اللاعبين مزدوجي الجنسية مرونة غير مسبوقة في تغيير انتمائهم الدولي، وإن كانت محكومة بشروط دقيقة. فبموجب القوانين الجديدة، أصبح بمقدور اللاعب الذي سبق وشارك مع منتخب وطني أن يغير انتماءه، شرط ألا تزيد مبارياته الرسمية مع المنتخب الأول عن ثلاث مباريات، وأن تكون مشاركته الأخيرة قد تمت قبل بلوغه سن الحادية والعشرين، وألا يكون قد خاض أي من هذه المباريات في بطولات كبرى مثل كأس العالم أو البطولات القارية.
كما اشترطت اللوائح مرور فترة زمنية لا تقل عن ثلاث سنوات منذ آخر مشاركة رسمية للاعب مع منتخبه السابق، وأن يتم تقديم طلب رسمي إلى "فيفا" للحصول على الموافقة النهائية .
هذه التعديلات مثلت نقطة تحول فارقة في مسارات العديد من اللاعبين الدوليين، حيث شكلت اعترافاً رسمياً من "فيفا" بالطبيعة المتطورة للهوية والانتماء في عالم كرة القدم الحديث. ففي السابق، كان أي لاعب يخوض مباراة واحدة رسمية مع منتخب أول يصبح مرتبطاً بهذا المنتخب إلى الأبد، دون أي فرصة للتغيير حتى لو كانت مشاركته محدودة أو في سن مبكرة. أما اليوم، فقد أصبح للاعبين، خاصة في بدايات مسيرتهم الدولية، هامش من المرونة يتيح لهم تصحيح اختياراتهم أو تغييرها في ضوء تطور ظروفهم الشخصية والمهنية، ما وسع بشكل ملحوص من خياراتهم المهنية ومكنهم من اتخاذ قرارات أكثر نضجاً حول تمثيلهم الدولي.
صراع الهوية والانتماء
تعكس قضية الجنسية الرياضية بشكل عميق التحديات الوجودية التي يواجهها اللاعبون مزدوجو الجنسية، العالقون بين هويات متعددة وانتماءات متقاطعة. ففي عالم كرة القدم الحديث، يقف هؤلاء اللاعبون عند مفترق طرق حاسم، حيث يجدون أنفسهم أمام خيار صعب بين تمثيل منتخب بلد النشأة والتربية، أو منتخب بلد الأصول والجذور العائلية. هذا الاختيار لا يقتصر على الجوانب المهنية والرياضية فقط، بل يتعداه إلى كونه قراراً عاطفياً وإنسانياً مرتبطاً بمشاعر الولاء والهوية الشخصية، ما يجعله أحد أكثر القرارات تعقيداً في حياة أي لاعب محترف.
في السنوات الأخيرة، برزت هذه الإشكالية بقوة خاصة في صفوف اللاعبين العرب المنحدرين من أصول مغاربية، الذين نشأوا وتكونوا رياضياً في أوروبا، لاسيما في فرنسا وهولندا وبلجيكا. فبين عروض المنتخبات الأوروبية الكبرى وجاذبية تمثيل "الوطن الأم"، تتباين القصص والحالات، حيث يرى بعض اللاعبين أن اختيار المنتخب الأوروبي يمنحهم فرصاً أكبر للنمو والمشاركة في البطولات الكبرى، بينما يفضل آخرون تمثيل بلدان أجدادهم استجابة لمشاعر الانتماء العاطفي والرغبة في الارتباط بجذورهم. هذا الانقسام بين الانتماء العاطفي والانتماء المهني يخلق جدلاً واسعاً بين الجماهير ووسائل الإعلام، حيث يرى البعض في اختيار اللاعبين للمنتخبات الأوروبية شكلاً من "التنكر للأصول"، بينما يعتبره اللاعبون أنفسهم خيارات منطقية في سياق حياتهم وظروفهم المهنية .
حكايات اللاعبين
تجسد الحالات الفردية للاعبين دوليين التطبيق العملي لتعديلات "فيفا" وتنوع الدوافع اختيارات اللاعبين. فقصة اللاعب المغربي منير الحدادي تظل واحدة من أبرز الحالات التي استفادت من التعديلات الجديدة، حيث تقدم المغرب بطلب لتفعيل التبديل الدولي للاعب بعد أن أصبح ممكناً قانونياً، ووافق "فيفا" على الطلب رسمياً، ليكون الحدادي مؤهلاً لتمثيل المنتخب المغربي على المستوى الدولي، حيث خاض أول مباراة رسمية له مع المغرب في مارس 2021 ضمن تصفيات كأس الأمم الأفريقية. الجدير بالذكر أن حالة الحدادي شهدت بعض التحفظات الأولية بمشاركاته السابقة مع منتخب الشباب الإسباني تحت 21 عاماً بعد أن تجاوز هذا السن، لكن التعديل الذي أُدخل مع تاريخ سريان اللائحة الجديدة جعل شرط السن لا يُطبق بأثر رجعي على الحالات التي حصلت قبل سبتمبر 2020، ما ساهم في تسوية وضعه.
أما حالة البرازيلي تياجو موتا فتمثل نموذجاً لاستفادة اللاعبين من ثغرات قوانين "فيفا" قبل التعديلات الأخيرة. فقد وُلد موتا في البرازيل عام 1982، وشارك مع منتخب بلاده في بطولة الكأس الذهبية 2003، لكن هذه المشاركة لم تُسجل كمنافسة رسمية ضمن روزنامة الاتحاد القاري للبرازيل (كونميبول)، وبالتالي لم تُعتبر "رسمية" بمفهوم "فيفا". وبعد حصوله على الجنسية الإيطالية من خلال أصوله العائلية، تقدم موتا بطلب لتغيير انتمائه الدولي إلى إيطاليا، ووافق "فيفا" على طلبه، ليلعب بعدها مع المنتخب الإيطالي في بطولات كبرى مثل يورو 2012 وكأس العالم 2014. من جهة أخرى.
وتظل حالة ديكلان رايس من أبرز الأمثلة الحديثة على الجدل المحيط بقضايا الجنسية الرياضية، حيث وُلد رايس في لندن لأبوين من أصول أيرلندية، واختار في بداياته تمثيل أيرلندا، وشارك معها في ثلاث مباريات ودية بين عامي 2018 و2019، قبل أن يقرر تغيير انتمائه إلى إنجلترا مستفيداً من قواعد "فيفا" التي تسمح بالتبديل طالما لم يشارك اللاعب في مباراة رسمية مع المنتخب الأول.
تأثير التعديلات على المشهد الكروي العالمي
شكلت التعديلات التي أدخلها "فيفا" على قواعد الأهلية منعطفاً مهماً في توزيع المواهب الكروية على المستوى الدولي، حيث ساهمت في إثراء بعض المنتخبات، لاسيما الأفريقية والعربية، بلاعبين متمرسين نشأوا وتدربوا في أوروبا.
فخلال العقد الماضي، سجل "فيفا" أكثر من 150 لاعباً مزدوج الجنسية قاموا بتغيير جنسياتهم الرياضية، حوالي 60% منهم من أصول أفريقية، مما يعكس تأثير الهجرة والاندماج الثقافي على كرة القدم العالمية. ورغم أن 40% فقط من هؤلاء اللاعبين تمكنوا من المشاركة في بطولات كبرى مثل كأس العالم أو كأس الأمم الأفريقية، إلا أن تحولهم مثل إضافة نوعية لمنتخباتهم الجديدة، وساهم في رفع مستوى التنافسية فيها .
لكن تأثير هذه التعديلات لم يقتصر على الجانب التنافسي فقط، بل امتد ليشمل أبعاداً ثقافية واجتماعية أوسع، حيث ساهمت في تسليط الضوء على قضايا الهوية والانتماء في مجتمعات الشتات، وأتحت للاعبين فرصة إعادة التواصل مع جذورهم الثقافية والعائلية. فاختيار لاعب مثل لوكا زيدان، ابن الأسطورة الفرنسية زين الدين زيدان، تمثيل الجزائر بدلاً من فرنسا، لم يكن مجرد قرار رياضي بحت، بل كان تأكيداً على أهمية الرابط العائلي والانتماء الثقافي، رغم كل عوامل الجذب التي يمثلها المنتخب الفرنسي. هذه الحالات وغيرها تعكس تحولاً تدريجياً في مفهوم الوطنية والانتماء في كرة القدم الحديثة، التي أصبحت أكثر تقبلاً للهويات المركبة والولاءات المتعددة، في مؤشر على تطور الرياضة العالمية نحو مزيد من العولمة والانفتاح.
مستقبل الجنسية الرياضية
مع استمرار تدفق اللاعبين مزدوجي الجنسية إلى الساحة الدولية، وتزايد حالات تغيير الانتماء الرياضي، يبدو أن قضية الجنسية الرياضية ستظل واحدة من أكثر الموضوعات إثارة للجدل في عالم كرة القدم.
فالتعديلات التي أقرها "فيفا" في 2020، رغم أنها مثلت خطوة نحو مزيد من المرونة والواقعية، إلا أنها لم تضع حلاً نهائياً للإشكاليات العديدة المحيطة بهذه القضية، التي تتراوح بين جدوى فرض قيود عمرية على تغيير الانتماء، وشرعية مشاركة اللاعبين في أكثر من منتخب خلال مسيرتهم، وموازنة مصالح المنتخبات الكبرى مع حقوق اللاعبين الشخصية.
0 تعليق