نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"سور البيانات العظيم".. هل بدأ انقلاب بكين على النظام الرقمي - بلس 48, اليوم الأربعاء 23 يوليو 2025 10:53 صباحاً
فبفضل أكثر من مليار مستخدم للإنترنت، وشبكة ضخمة من الكاميرات الذكية والتقنيات الناشئة، تُنتج الصين بيانات أكثر من أي دولة أخرى في العالم، وقد قررت الحكومة تحويل هذا التدفق الهائل من المعلومات إلى مصدر قوة استراتيجي، عبر بناء ما يُشبه "سور بيانات عظيم" يُحصّن الاقتصاد ويُغذي طموحات بكين في الهيمنة التكنولوجية العالمية.
وبحسب تقرير أعدته صحيفة "ذي إيكونوميست"، واطّلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فإن الصين شرعت في تقييم أكوام البيانات المتوفرة لدى الشركات الحكومية، حيث أصدر مجلس الدولة الصيني في 3 يونيو 2025، قواعد جديدة تُلزم جميع المستويات الحكومية في البلاد بمشاركة ما تمتلكه من بيانات، إذ إن الفكرة الأساسية لهذا المشروع تتمثل في تقييم البيانات كأصول قيّمة، يمكن إدراجها في الميزانيات العمومية أو حتى تداولها في البورصات الحكومية.
ومن الخطوات المهمة الأخرى التي قامت بها البلاد في مجال جمع البيانات، أطلقت الصين في 15 يوليو 2025 نظام الهوية الرقمية الجديد، الذي يمنح الدولة صلاحية حصرية في الوصول إلى البيانات الخاصة بتحركات المستخدمين على مواقع الويب والتطبيقات التي يزورونها داخل البلاد. أما شركات التكنولوجيا الكبرى التي كانت تتحكم بهذا النظام سابقاً، فلن تعود قادرة على ربط أسماء المستخدمين بنشاطاتهم الرقمية، إذ لن ترى من الآن وصاعداً سوى سيلٍ مبهم من الأرقام والحروف، ما يُقلّص قدرتها على التتبع والاستهداف بدقة.
رفع البيانات إلى مرتبة رأس المال
ويبدو أن الهدف النهائي للصين هو بناء محيط بيانات وطني متكامل لا يقتصر على المستخدمين العاديين فقط، بل يشمل أيضاً الأنشطة الصناعية والحكومية، حيث تكمن مزايا هذا النموذج في توفير وفورات الحجم الضرورية لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وتقليص الحواجز أمام دخول الشركات الصغيرة إلى السوق.
ويرى صانعو السياسات في الصين أن البيانات أصبحت عنصراً إنتاجياً لا يقل أهمية عن اليد العاملة ورأس المال، نظراً لدورها المحوري في تعزيز ربحية الشركات، ودفع عجلة الابتكار، وتغذية طموحات البلاد لتصدّر السباق العالمي نحو ريادة الذكاء الاصطناعي.
تنفيذ رؤية الرئيس
والتحوّل العميق الذي تشهده الصين في تقييم البيانات، ورفعها إلى مرتبة أصول استراتيجية، لم يكن وليد الصدفة، بل هو في الأصل رؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي وصف البيانات بأنها "مورد ثوري"، يحمل في طياته القدرة على إعادة رسم خريطة المنافسة العالمية.
وتسير الصين منذ سنوات بخطى حثيثة لتحقيق هذه الرؤية الطموحة، ففي عام 2021، تبنت قوانين مستوحاة من اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبية (GDPR)، ولكنها، ومع حلول عام 2025، بدأت تبتعد عن المسار الغربي لتضع لنفسها إطاراً فريداً يعزز دمج البيانات كركيزة أساسية في استراتيجياتها التنموية والأمنية على المستويين الوطني والدولي.
ولعقود من الزمن، كانت الصين "تابعاً سريعاً" للابتكارات الغربية، ولكنها اليوم تقف على أعتاب تغيير جذري قد يقلب موازين القوى. فإذا نجحت في تحويل "سور بياناتها العظيم" إلى مصدر ثروة استراتيجية، فإن نهجها في مركزية إدارة البيانات سيغدو تحدياً لا يقتصر تأثيره على الاقتصاد، بل يتسلل إلى عمق المعادلات السياسية العالمية.
ثغرات تواجه الطموح
ولكن الطموح الصيني، ورغم أهميته، لا يخلو من ثغرات خطيرة. فبحسب تقرير "ذي إيكونوميست"، تحمل القوانين الجديدة مخاطر أمنية واضحة، لا سيما مع سجل الدولة المتعثر في حماية البيانات الشخصية، إذ يكفي التذكير بالحادثة التي شهدت اختراق مليار سجل لدى شرطة شنغهاي على يد أحد القراصنة.
وما يُثير القلق أيضاً، هو أثر هذه السياسات على الابتكار، فحين يتم منع الشركات الخاصة من الوصول إلى البيانات التي تساهم في إنشائها، فإن أرباحها ستتآكل وتتراجع حوافزها للابتكار، ما قد يُفرمل الزخم التكنولوجي الصيني ذاته.
أما الخوف الأكبر، فهو أن يُصبح هذا المشروع الصيني الطموح غطاءً لنظام مراقبة شامل، يُحكم قبضته على كل حركة رقمية داخل البلاد، ما سيُثير جدلاً أخلاقياً واسعاً حول مستقبل الخصوصية في الدولة.
نقلة نوعية
ويقول المطور التكنولوجي هشام الناطور، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الصين لا تطرح مجرد سياسة بيانات جديدة، بل تصوراً مختلفاً لعصر جديد تصبح فيه البيانات عنصراً إنتاجياً مستقلاً يمكن تملّكه، تسعيره، أو حتى تداوله. فاعتبار البيانات أصلاً مالياً في الميزانيات العمومية ليس إجراءً محاسبياً فحسب، بل تحول مفاهيمي يعيد تعريف مفهوم القيمة الاقتصادية، ما يعني أن الاقتصادات لن تتنافس فقط على الموارد الطبيعية، بل على تدفقات البيانات أيضاً، ما يفتح الباب أمام نشوء أسواق رقمية تُدار فيها البيانات كما تُدار السلع الاستراتيجية التقليدية.
ويعتبر الناطور أن ما يميز الطرح الصيني هو الجدية في التنفيذ، بدءاً من فرض مشاركة البيانات الحكومية، إلى إطلاق الهوية الرقمية التي تعيد تموضع الدولة في قلب الاقتصاد الرقمي. إذ لا توجد دولة في العالم تملك هذه القدرة على توحيد مصادر البيانات وتنظيمها مركزياً بهذا الشكل، ما يمنح بكين تفوقاً تنظيمياً قد يُترجم إلى ميزة تنافسية هائلة في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي. فكما كانت الطاقة هي المحرك الرئيسي للثورات الصناعية السابقة، أصبحت البيانات اليوم الوقود الحيوي لعصر الاقتصاد المعرفي، ومَن يملكها ويسيطر على تدفقها يمتلك مفتاح الريادة في التكنولوجيا، والصناعة، وحتى الأمن القومي.
زلزال جيوسياسي رقمي
ويشدد الناطور على أن نجاح النموذج الصيني الجديد، باعتبار البيانات كأصل، يعتمد على عاملين، هما: الأول هو قدرة الدولة على حماية البيانات وتأمين البنية التحتية ضد الاختراقات، والثاني إيجاد توازن دقيق بين مركزية السيطرة الحكومية على البيانات وترك الهامش مفتوحاً أمام الشركات، للابتكار من خلال منحها حق الوصول للبيانات كي تتمكن من تطوير منتجاتها. وبالتالي، إذا استطاعت بكين تجاوز هذه التحديات، فإن ذلك سيمنحها تفوقاً تنظيمياً، إذ إن التدفق المستمر للبيانات التي يُنتجها أكثر من مليار مستخدم نشط للإنترنت داخل الصين، يُمثل منجماً لا ينضب من المعلومات السلوكية والاجتماعية والاقتصادية، ويمنح الدولة قدرة غير مسبوقة على تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتحسين الخدمات وصناعة قرارات أكثر دقة. وهذا بحد ذاته يمثل زلزالاً جيوسياسياً رقمياً.
بيانات أم أدوات تحكّم؟
من جهته، يقول المطور التكنولوجي فادي حيمور، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه في الظاهر تُعتبر البيانات أصلاً اقتصادياً ثميناً، ولكن في المضمون قد يكون طموح الصين هو بناء منظومة تحكُّم استراتيجي، وليس مجرد سوق بيانات. فبكين قد لا يكون تفكيرها محصوراً في القيمة السوقية التي تجسدها البيانات، بل في القيمة السلطوية كأداة ضبط وتحكم اجتماعي وسياسي، مشيراً إلى أن تحويل البيانات إلى أصل يتطلب ثقة في المؤسسات وحوكمة شفافة وحماية للملكية الفكرية، وجميع هذه عناصر غير متوفرة في الصين تاريخياً، وهو ما يُضعف مصداقية مشروع بهذا الحجم رغم زخمه التشريعي.
المركزية ضد الابتكار
ويرى حيمور أن المفارقة تكمن في أن ما يجعل المشروع الصيني ممكناً، أي مبدأ المركزية أو حصرية البيانات، هو نفسه ما قد يُفشله. فالنموذج الأميركي أو الأوروبي للتعامل مع البيانات يزدهر باللامركزية والتعددية، وهو نموذج أثبت نجاحه، بينما النموذج الصيني الجديد سيُقصي الشركات الخاصة من التحكم بالبيانات، وهذا قد يحدّ من قدرتها على تطوير منتجات عالمية موجهة للسوق المفتوح. ولذلك، فإن ما تفعله الصين ليس فقط تحدياً تكنولوجياً، بل فلسفياً أيضاً، فمن سيملك الذكاء: الشركات أم الدول؟ وماذا ستفعل بكين حيال هذه المفارقة الصعبة؟
0 تعليق