بتابع للدكتور محمد الشيخ فى كتاب "فيروز.. وسوسيولوجيا الإبداع عند الرحبانية 1960 – 1980" والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بقوله: إن فيروز والأخوين رحبانى، تاريخ ثقافي كبير وظاهرة ثقافية، تجمعت حوله كل التباينات التي تضمنت كل الموروثات، وتم لهذه البيئة الجبلية والساحلية، كذلك الرعوبة والزراعية، بكل موروثها السرياني (الطائفة المارونية) والبيزنطي (الطائفة الأرثوذكسية)، والعربي بنوعيه الشمالي (الطائفة الدرزية) والجنوبي (الطائفة السنية والشيعية)، فإن للثانية، وهى مجموعة من التراتيل والترانيم، ما بين الطقسين الماروني والبيزنطي، سواء ما يخص أعياد الميلاد أو (أيام الآلام) كالجمعة الحزينة: الصلب والقيامة، وما قدموه ضمن هذا الإطار خارج المستويات مباشرة، في نماذج راقية للمسرح الغنائي: (أغنية ساعدني ) من مسرحية (جبال الصوان) وأغنية (بيتى أنا بيتك) من مسرحية (ناطو المفاتيح و(غنية إيماني ساطع) من مسرحية (المحطة).
إن تلك الظروف والملابسات الأيديولوجية هي التي شكلت الفكر السياسي والاعتزاز بالانتماء لبلادهم، وإيمانهم بالحرب الفكرية على الاستعمار من خلال أعمال فنية خالدة في المسرح وفى مجال الأغنية على مدار ثلاثة عقود، وهما سلاحان لا يستهان بهما، والتحريض على المقاومة على كل المستويات السياسية، ومن هنا انخرطت الأغنية السياسية من رحم الوجدان الشعبي، ففي ظل القهر والاحتلال والتعسف، حمل الوجدان الشعبي لواء الكلمة الأغنية، المموهة، للدفاع عن النفس والتحريض على المستعمر.
انعكست هذه الوقائع على واقع كبير يكتشف حقيقة التضخمات والتأزمات التي تصيب بطن التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في لبنان وبالتالي في العالم العربي، وبالأخص على قضية فلسطين، على الواقع الفني لأعمال الرحبانية، فجاءت النظم السيميولوجية التي تشملهم مؤسسة على قواعد سليمة وقوية في رصد الواقع وإعادة بنانه مرة أخرى في صور وأشكال ولوحات مسرحية وغنائية، فخاطبت كل هذا المخزون الفكري والسياسي الناتج من الصراع الطويل داخل التركيبة والفكر الرحبانية.
وفى قراءة متعمقة لمضامين ذلك المسرح، تثبت أن الرحبانية اهتموا بالمضمون الفكري لمسرحهم قدر اهتمامهم بالشكل الفني والموسيقى، وأنهم سعوا لإيصال رسائل سياسية واجتماعية غاية فى الأهمية والجرأة، منطلقين من رؤية انتقاديه عميقة للمجتمع اللبناني والعربي عمومًا ومن رغبة صادقة في تقديم فن يُحرص على التغيير، ويزرع بذور الثورة، ليس باعتبارها فعلا انقلابيًا يوصل مجموعة من الساسة أو العسكر إلى الحكم، بل باعتبارها سلسلة من التغييرات الجوهرية على الصعيد الاجتماعي والإنساني، وعلى علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة الواقع بالمثال.
قدم الرحبانية أعمالا غنائية كثيرة مختلفة عن القضية الفلسطينية، كانت نصوصها تعبر عن مفردات شتى اختزلوا فيها صور ووقائع وأحداث، برؤية فنية متشعبة أفصحت عن مضامين درامية تعكس مأساة الشعب الفلسطيني وقضيته مع الصهاينة، من خلال معنى اللجوء والتشرد: في هذا المحور ركز الرحبانية على استحضار معنى مؤثر في لب القضية وفى قلبها النابض، ألا وهو المعاناة التي تعبر عن التشرد واللجوء، ورمزوا لها بفكرة الانتظار للمستقبل المأمول فيه للفلسطينيين وهو العودة باعتبار أن جوهر المشكلة الإنسانية التي يواجهها اللاجئون ترتكز على الانتظار، ويتضح ذلك في كل من أغنيتي: غاب نهار آخر و"احترف الحزن والانتظار"، الذي يكثف من مشاعر تجسد الموت البطيء، وذلك لأن أعمار المنتظرين تغتال على جسر هذا الانتظار، ويتآكل الزمن وينعدم في غيبوبة الترقب والعد، وتظل مجريات الأمور تجرى بعنف على أقدار المنتظرين وتقتل آمال الناس وطموحهم وأحلامهم بالعودة للوطن في كل وقت
أغنيات القدس: توالت أعمال الرحبانية في الحقبة الزمنية التي عاصرت إنتاجهم الكلى، بجزء كبير يتعرض لقضية فلسطين والمكانة الخاصة التي تمتعت بها، متمثلة في قضية القدس في الصراع العربي الاسرائيلى، وقدمت أعمالًا كبيرة مثل القدس العتيقة، وزهرة المدائن، وشادي، وجسر العودة، وكثيرا من الأعمال التي كانت إضافة كبيرة للمنتج الغنائي العربي، حيث تضمنت تلك الأغنيات مضامين درامية وتراجيدية وسياسية ضمن تركيبة فنية ارتقت بالرمز فى صياغة الأحداث والجغرافيا والتاريخ والدين فى بوتقة فنية ملحمية أثرت في وجدان الأمة العربية وأضافت قيمًا فنية فى هذا الصدد.
تلاقت معظم موضوعات الأغاني التي قدمها الرحبانية في أغنيات تدلل على حلم العودة والرجوع إلى أحضان الوطن الأم المحتل في أغنيات مختلفة أهمها "راجعون" و"سنرجع يومًا " و"أجراس العودة" و"سيف فليشهر" و"جسر العودة " وتبقى هي الأكثر تعبيرًا عن هذا الحلم، وتأكيدًا وإصرارًا على إذكائه.
وللحديث بقية