بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية، ودخول البلاد في نفق الحرب والتدخلات، تلوح اليوم إمكانية فتح صفحة جديدة في التاريخ السوري، عبر مرحلة انتقالية أو نظام جديد يتشكّل على أنقاض النظام القديم. في هذا السياق، لا تنحصر التحديات في إعادة بناء الدولة، بل في التعامل مع إرث بالغ التعقيد من الانقسامات الداخلية، والتجاذبات الإقليمية، والصراعات الدولية على الأرض السورية.
التوترات الداخلية وإرث الانقسام
يدخل النظام الجديد إلى مشهد سوري مثقل بالهويات المتصادمة والانقسامات الطائفية والعرقية التي عمّقتها سنوات الحرب. لم يعد الحديث عن “سوريا المتنوعة” ممكنًا بمعزل عن التغيرات الديموغرافية القسرية، وواقع التهجير، وبروز ولاءات مناطقية وطائفية وعشائرية بديلة عن مفهوم المواطنة.
على طاولة النظام الجديد، ستكون المعضلة الأولى هي إعادة بناء عقد اجتماعي جديد، يضمن الشراكة السياسية بين المكونات كافة. فهناك مواقف متحفظة من طوائف مثل العلويين والدرزيين تخشى الإقصاء أو الانتقام، كما توجد مطالب كردية بالاعتراف الذاتي، فضلًا عن تطلعات الأغلبية السنّية لدور سياسي مركزي طالما تم تهميشه.
التدخلات الخارجية وموازين النفوذ
يأتي أي نظام جديد في دمشق محاطًا بإرث ثقيل من التدخلات الخارجية، ومعادلات نفوذ يصعب تجاوزها بسهولة. فالقوى الدولية والإقليمية لم تكتفِ بمساندة أطراف النزاع، بل أصبحت حاضرة ميدانيًا، سياسيًا، واقتصاديًا في الجغرافيا السورية.
تلعب روسيا دورًا مركزيًا في التوازنات الإقليمية عبر قواعدها العسكرية ونفوذها السياسي، وتسعى لأن تكون شريكًا مؤثّرًا في أي ترتيبات مستقبلية.
أما إيران، فقد عملت على بناء نفوذ اجتماعي وأمني عميق في الداخل السوري، من خلال ميليشيات وعقيدة مذهبية عابرة للحدود، وهو ما سيُشكّل تحديًا أمام أي سلطة جديدة تسعى لاستعادة القرار الوطني المستقل.
من جهة أخرى، تحاول تركيا فرض وجودها عبر المناطق الشمالية بذريعة الأمن القومي ومواجهة التمدد الكردي، فيما تستمر إسرائيل في تنفيذ عملياتها العسكرية تحت غطاء “منع التموضع الإيراني”، مدفوعة بتصور أمني طويل الأمد على حدودها.
كل هذا يجعل من الملف السوري ساحة اختبار حقيقية لأي سلطة انتقالية تسعى لاستعادة السيادة ووضع حدّ لحالة “التفويض الإقليمي والدولي” التي حكمت البلاد طوال سنوات الحرب.
سوريا الجديدة ومخاطر التقسيم الناعم
التحدي الجوهري أمام النظام الجديد لا يكمن فقط في تجاوز مخلفات الحرب، بل في إعادة تعريف سوريا كدولة. فالمشهد الميداني يشير إلى نوع من “التقسيم الناعم”، تُدار فيه المناطق بمرجعيات مختلفة، وأجندات منفصلة. من الإدارة الذاتية في الشرق، إلى النفوذ التركي في الشمال، وصولًا إلى جيوب للنفوذ الإيراني في الجنوب والوسط.
إعادة توحيد البلاد، سياسيًا وجغرافيًا، تتطلب مسارًا تفاوضيًا داخليًا شاملًا، قبل أي تسوية دولية أو إقليمية. فدون مصالحة داخلية حقيقية، وعدالة انتقالية شفافة، سيكون من الصعب طي صفحة الماضي، أو ضمان استقرار دائم.
العدالة الانتقالية ولمّ الشمل الوطني
لا يمكن لأي مرحلة جديدة أن تنجح دون مقاربة جدية لملف العدالة الانتقالية، تكفل محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات من كافة الأطراف، وتمنح الضحايا الاعتراف والكرامة، ضمن آلية قانونية عادلة.
كما أن دور المعارضة السورية، في الداخل وفي الشتات، يجب أن يتحوّل من التشتت والتناحر إلى بناء جبهة سياسية موحدة قادرة على المساهمة الفعالة في صياغة مستقبل البلاد، بعيدًا عن الإملاءات الإقليمية.
إن لمّ شمل السوريين على قاعدة المصلحة الوطنية الجامعة، وليس على مقاييس المنتصر والمهزوم، هو المدخل الحقيقي لأي مصالحة قابلة للحياة، ولأي مشروع نهضوي يُعيد سوريا إلى دورها الحضاري والتاريخي.
سوريا والصراع الجيوسياسي: خريطة جديدة تتشكّل
بين انحسار النفوذ الأميركي جزئيًا، ومحاولات روسيا ترسيخ حضورها، وتمدّد إيران في المساحات الفارغة من السلطة، وتوازنات تركيا وإسرائيل، تُرسم اليوم خريطة جديدة للشرق الأوسط انطلاقًا من الأرض السورية.
في هذه الخريطة، إما أن تكون سوريا لاعبًا فاعلًا بسيادتها، أو مجرّد مساحة تنازع بين المشاريع الكبرى.,,!!
تعليقات